فكما يكون من نتائج مذهب "الجبر" الشعور بضعف شخصية المعتقد في نفسه أمام الله، يكون من نتائجه شعوره بهذا الضعف أمام غيره من البشر؛ لأن اعتقاد الجبر يقوم في واقع الامر على إلغاء الشخصية والوجود الذاتي، وإذا كان هذا الإلغاء في الأصل هو بالنسبة إلى الله المعبود، فإنه قد يدفع المعتقدين به إلى أن يتجاوز بشعورهم بضعف شخصيتهم دائرة الصلة بينهم وبين الله. إلى الصلة بينهم وبين المخلوقين، والجبري مؤمن سلبي في الحياة، أخص مظاهر سلوكه الاعتماد على غيره، ولو كان هذا الغير أضعف منه في واقع الأمر.
وعلى كل حال فعقيدة "الجبر" تتلاءم مع "التقليد"، وكلاهم مظهر الضعف في الحياة! و"الجبري"، و"المقلد": كلاهما تقوم حياته على الصدفة، وكلاهما يتهاون في ترك مجال الحياة لغيره، وكلاهما لا يعنى بالنظر إلى غيره.
والشيخ محمد عبده -عليه رحمة الله- منذ أن ثار على "التوجيه"القائم في وقته، ثار في واقع الأمر على الضعف والتهاون، وثار على سلبية الإنسان في الحياة، وأراد للمسلم أن يكون ذا شأن وإيجابية في يومه وغده.
وهنا في تحديد الصلة بين المسلم وربه، لم يرض أن تكون عقيدة الإنسان في هذا الجانب عقيدة "الجبري"، لأن هذا الاعتقاد سيفضي حتما إلى ضعف الإنسان، ويصير به إلى أن يكون عديم الإرادة، وعديم الإيجابية في الحياة.. ومن أجل هذا يكافح محمد عبده عقيدة "الجبر"، ومن أجل أن يكون المسلم بناء يدعو محمد عبده إلى عقيدة "الاختيار" بقوله:
"لو شئت لقربت البعيد فقلت: إن من بالغ الحكم في الكون أن تتنوع الأنواع على ما هي في العيان، ولا يكون النوع ممتازا عن غيره حتى تلزمه خواصه، وكذا الحال في تميز الأشخاص، فواهب الوجود يهب الأنواع والأشخاص وجودها على ما هي عليه، ثم كل وجود متى حصل كانت له توابعه، ومن تلك الأنواع الإنسان، ومن مميزاته -حتى يكون غير سائر الحيوانات- أن يكون مفكرا، مختارا في عمله، على مقتضى إرادته. فوجوده الموهوب مستتبع لمميزاته هذه. ولو سلب شيء منها لكان إما ملكا أو حيوانا آخر. والفرض أنه إنسان، فهبة الوجود له لا شيء فيها من القهر"١!.