للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يسلك محمد عبده في مكافحة عقيدة "الجبر" من جانب، وفي الدعوة إلى "عقيدة "الاختيار" من جانب آخر مسلك الإنسان الفيلسوف. الذي يستمد الرأي من وجهة نظر خاصة، تمكنت من نفسه ورغب في شرح الحياة والوجود على أساس منها بل سلك، كشأنه فيما نقد ورأى، مسلك رجل الدين المتبصر، فالأساس الذي يقوم عليه تفكيره أساس ديني، والهدف الذي يبغي الوصول إليه هو هدف ديني، والطريق بين الأساس والهدف يتسم بالصبغ الدينية.

علل قوله: "بالاختيار" ببعض نصوص القرآن الدالة على إسناد الفعل والعمل إلى الإنسان، وببعض النصوص الأخرى التي ربطت الجزاء الأخروي بالعمل في هذه الحياة الدنيا "كقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} ١ يقول:

"تجلت بدعوة التوحيد للإنسان نفسه حرة كريمة، وأطلقت إرادته من القيود التي كانت تعقدها بإرادة غيره: سواء أكانت إرادة بشرية ظن أنها شعبة من الإرادة الإلهية أو أنها كإرادة الرؤساء والمسيطرين، أو إرادة موهومة اخترعها الخيال, كما يظن في الأشجار والكواكب، ونحوها. وقرر أن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ٢، و {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ٣.

وأضاف محمد عبده إلى هذه النصوص تبرير العقل لذلك، على نحو ما ينسب إلى رجال الاعتزال في تصحيح التكليف من الوجهة العقلية، ويؤثر عن هؤلاء الرجال أنهم يقولون: إن التكليف لا يترتب عليه الجزاء بنوعيه -عقلا- إلا إذا كان الإنسان "مسئولا" ولا تعقل مسئوليته إلا إذا كانت له إرادة بالفعل وكان له "اختيار" في واقع الأمر.

وهذا التبرير العقلي ليس عملا عقليا مستقلا عن رأي الدين، بل هو شرح لما جاء فيه من عقائد وفرائض، فهو دليل على شيء معتقد بالفعل، وليس دليلا قصد به إنشاء عقيدة يقول في ذلك:

"لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق، والذليل للحق


١ النجم: ٣٩, ٤٠.
٢ الزلزلة: ٧, ٨.
٣ رسالة التوحيد: صفحة٩.

<<  <   >  >>