وفي كفاحه السياسي، وهي: الرجوع إلى القرآن، وإلغاء التقليد، وأعمال الاجتهاد، ومحاربة البدع والسلبيات ... إذا روعي هذا فإن هذه التفرقة بين الاثنين تغدو غير مفهومه، على النحو الذي قصد إلى إبرازه..إلا على اعتبار أن محمد عبده جعل مصر "حقل" تجاربه التربوية.
ثم إنه لم يثبت من جانب آخر أن "جمال الدين" حدد غايته الأخيرة تحديدا واضحا بإقامة حكومة واحدة تخضع لسلطانها كل البلاد والشعوب الإسلامية، وإنما الذي ثبت في كتاباته في مجلة "العروة الوثقى" أن غايته هي: "الجامعة الإسلامية" بين الشعوب الإسلامية.. وقد فهم بعض الكتاب من كلمة "الجامعة الإسلامية" الوحدة الإسلامية، وتركوا المعنى الآخر لهذه الكلمة وهو "الرابطة" أو الترابط ... في حين أن كلمة "الجامعة" في اللغة العربية أقرب إلى المعنى الثاني منها إلى المعنى الأول، وقد عبر جمال الدين هو نفسه تعبيرا واضحا صريحا بأنه لا يريد حكومة إسلامية واحدة، بل يريد تعاونا وترابطا أخويا إسلاميا!
على أن هناك شيئا آخر يتميز به "محمد عبده" في علاقته بجمال الدين من جانب، عن "محمد بن عبد الوهاب" في صلته بابن تيمية من جانب آخر، وهو: أن جمال الدين ومحمد عبده واجها حلقة من حلقات الاعتداء الغربي المسيحي على الشرق الإسلامي، لم يواجهها ابن تيمية ولا تلميذه محمد بن عبد الوهاب من بعده ... وهي حلقة "الدراسات الإسلامية" التي يقوم بها المستشرقون الغربيون، لا لمصلحة الاستعمار الغربي فحسب، وإنما تنفيسا للعداوة التقليدية التي تخلفت عن الحروب الصليبية قبل كل شيء! ولم يستطع بعض الدارسين من علماء المسيحيين للتراث الإسلامي أن يخففوا من حدتها على نفوسهم عند مباشرة هذه الدراسة باسم "العلم" الذي مفهومه: الوسيلة المحايدة لخدمة الإنسانية، فضلا عن أن يتخلصوا من هذه العداوة تماما!!
وهكذا واجه جمال الدين "رينان" المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة الخارجية الفرنسية في شئون شمالي إفريقيا الإسلامية، وسمع منه رأيه في الإسلام والمسلمين.. واضطر كل من جمال الدين ومحمد عبده أن يشرحا بعض تعاليم الإسلام، التي اتخذ منها "رينان""وهانوتو" مركز الهجوم على الإسلام، كما اضطرا أن يفرقا في غير لبس بين الإسلام كدين مصدره القرآن والسنة الصحيحة.. وبين عمل المسلمين وأفهامهم