للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المجرد في الدين أو في العلم تقع فيما يسمى: "تصفية التجربة"، ولكي نفهم هذا ينبغي أن نفرق بين التجربة بوصفها أمرا طبيعيا يدل على ما للحقيقة من سلوك يمكن ملاحظته بالوسائل العادية، وبين التجربة بوصفها دالة على جوهر الحقيقة وطبيعتها الذاتية، فالتجربة بوصفها أمرا طبيعيا، تفسر في ضوء سوالفها السيكولوجية والفسيولوجية أما بوصفها دالة على جوهر الحقيقة، فينبغي أن نستعمل في بيان معناها معايير من نوع آخر:

ففي ميدان العلم "Seience": نحاول فهم معنى التجربة، فيما يتعلق بالمسلك الخارجي للحقيقة، أما في حلبة الدين: فإنا نعتبرها ممثلة لنوع من الحقيقة ثم نحاول كشف معناها فيما يتعلق أساسيا بطبيعة تلك الحقيقة، والخطط الدينية والعلمية متشابهة بوجه ما، فهما يتناولان في الحقيقة وصف عالم واحد، مع هذا الفرق الوحيد وهو: أن وجهة نظر "الذات" "العواطف والانفعالات" تستبعد بالضرورة من خطة العلم، أما في خطة الدين فإن "الذات" تؤلف بين ميولها المتضادة، وتحدث نزوعا شاملا مفردا ينتهي إلى نوع من تحويل التجارب تحويلا تركيبيا، والدرس الدقيق لهذه الخطط المتكاملة في الحقيقة، في طبيعتها وغايتها يبين أن كلا منها موجه إلى تطهير التجربة في ميدانه الخاص.

بل إن خطة التصوف الإسلامي -على الأقل- في سبيل حرصها على أن تكفل رياضة بريئة تماما من الانفعالات، قد حرصت على تحريم استخدام الموسيقى في العبادة، وأن تؤكد ضرورة صلاة الجماعة اليومية لكي تقاوم ما قد ينشأ من آثار ضارة بروح الجماعة، نتيجة للتأمل في أثناء العزلة. فالرياضة الصوفية رياضة طبيعية تماما، ولها معنى بيولوجي على أعظم أهمية، بالنسبة للذات "أنا" إنها الذات الإنسانية تسمو فوق مجرد التأمل, وتصلح من زوالها بالوصول إلى الأبد السرمدي "الحقيقة الكلية".

"فمنتهى غاية الذات "أنا" ليس أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا. والجهد الذي تبذله الذات، لكي تكون شيئا، هو الذي يكشف لها فرصتها الأخيرة لشحذ موضوعيتها، وتحصيل ذاتية أكثر عمقا ... ترى الدليل على حقيقتها في قول "كانت": "أنا أقدر"، لا في قول "ديكارت": "أنا أفكر"!! وليست غاية مطلب الذات التحرر من حدود الفردية, بل هي على العكس من هذا تحديدها تحديدا أدق وأوفى، والعمل الأخير ليس عملا عقليا وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله، ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع: بأن العالم ليس شيئا لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور,

<<  <   >  >>