للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما أن القرآن يبحث على العلم التجريبي، وعلى أن يمارس الإنسان التجربة في تحصيل المعرفة، فيرى ذلك "إقبال"، من دلالة مثل هذه الآيات الكريمة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} ١.

{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ٢.

ويعلق "إقبال" على هذه الآيات بقوله:

"ولا شك أن أول ما يستهدفه القرآن من هذه الملاحظة التأملية للطبيعة هو أنها تبعث في نفس الإنسان الشعور بمن تعد هذه الطبيعة آية عليه "وهو الله" ولكن الذي ينبغي التفات إليه هو الاتجاه التجريبي العام في القرآن، مما كون في أتباعه شعورا بتقدير الواقع، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث، وأنه لأمر عظيم حقا أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات، بوصفه قليل الغناء في بحث الإنسان وراء الخالق، وكما أشرنا فيما سبق، يرى القرآن أن العالم له غايات جدية: فتطوراته المتغيرة تحمل حياتنا على التشكل بصورة جدية، والجهد العقلي الذي نبذله للتغلب على ما يقيمه العالم من عقبات في سبيلنا، يشحذ بصيرتنا فيهيؤنا للتعمق فيما دق من نواحي التجربة الإنسانية الأخرى، فضلا عن أنه يمد في آفاق الحياة، ويزيدها خصبا وغنى. واتصال عقولنا بثمرة الأشياء الحادثة هو الذي يدربنا على النظر العقلي في عالم المجريات أن الحقيقة تثوى في نفس مظاهرها، وإن كان الإنسان يعيش في بيئة كئود لا يسعه أن يتجاهل عالم المرئيات.

"والقرآن يبصرنا بحقيقة التغير العظيمة، التي لا يتسنى لنا بغير تقديرها والسيطرة عليها، بناء حضارة قوية الدعائم، ولقد أخفقت ثقافات آسيا، بل ثقافات العالم القديم كله؛ لأنها تناولت الحقيقة بالنظر العقلي ثم اتجهت منه إلى العالم الخارجي فأمدها هذا المسلك بالتفكير النظري المجرد


١ الفرقان: ٤٥, ٤٦.
٢ الغاشية: ١٧-٢٠.

<<  <   >  >>