والسبب الرئيسي المباشرة الذي دعا الأوروبيين إلى الاستشراق هو سبب ديني في الدرجة الأولى؛ فقد تركت الحرب الصليبية في نفوس الأوروبيين ما تركت من آثار مرة عميقة، وجاءت حركة الإصلاح الديني المسيحي فشعر المسيحيون: بروتستانت وكاثوليك، بحاجات ضاغطة لإعادة النظر في شروح كتبهم الدينية، ولمحاولة تفهمها على أساس التطورات الجديدة التي تمخضت عنها حركة الإصلاح, ومن هنا اتجهوا إلى الدراسات العبرانية، وهذه أدت بهم إلى الدراسات العربية فالإسلامية؛ لأن الأخيرة كانت ضرورية لفهم الأولى وخاصة ما كان منها متعلقا بالجانب اللغوي، وبمرور الزمن اتسع نطاق الدراسات الشرقية حتى شملت أديانا ولغات وثقافات غير الإسلام وغير العربية١.
ومن جهة أخرى رغب المسيحيون في التبشير بدينهم بين المسلمين، فأقبلوا على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز الدعاة وإرسالهم للعالم الإسلامي، والتقت مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار فمكن لهم، واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق، وأقنع المبشرون زعماء الاستعمار بأن "المسيحية" ستكون قاعدة الاستعمار الغربي في الشرق، وبذلك سهل الاستعمار للمبشرين مهمتهم وبسط عليهم حمايته، وزودهم بالمال والسلطان، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول أمره على أكتاف المبشرين والرهبان ثم اتصل بالاستعمار.
وبجانب هذا وذاك, كانت هناك أسباب أخرى فرعية لنشأة الاستشراق: أسباب تجارية، وأسباب سياسية ديبلوماسية، وأسباب شخصية مزاجية عند بعض الناس الذين تهيأ لهم الفراغ والمال، واتخذو الاستشراق وسيلة لإشباع رغباتهم الخاصة في السفر, أو في الاطلاع على ثقافات العالم القديم، ويبدو أن فريقا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكانياتهم الفكرية عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم
١ راجع المصدر السابق، وكتاب "المستشرقون" لنجيب العفيفي ومجلة الإسلام بالإنجليزية Al-Islam ص١١٢ من عدد ١٥ فبراير سنة ١٩٥٨.