.. ومن المسلم أن كل أمر من الأمور فيه جهة نفع وجهة ضرر متعادلتان أو متفاوتتان. فإذا كانت جهة النفع في الشيء هي الغالبة فهو مصلحة، وإن اشتمل على ضرر مغلوب، وإن كانت جهة الضرر هي الغالبة فهو مفسدة، وإن اشتمل على نفع مغلوب، ولذا كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة فيه من مصلحة أو مفسدة.
... وعلى هذا فكل شئ أو فعل إنما يكون مشروعاً أو ممنوعاً بحسب رجحان نفعه أو رجحان ضرره، وتقدير ذلك إلى نظر المجتهد.
... ومن المقرر في هذه الحال أن الجهة المرجوحة المغلوبة من نفع أو ضرر غير مقصودة للشارع في أوامره ونواهيه، بل هي متغاضى عنها في سبيل الجهة الراجحة.
... ومن المقرر أيضاً أن المصالح التي يعتبرها الشرع ويرعاها لا عبرة بكونها موافقة لأهواء المكلفين وشهواتهم أو مخالفة، وإنما هي ما يقيم شأن الدنيا على أن تكون جسراً للآخرة فتبني حياة صالحة فاضلة متعاونة على الخير والبر (١) .
... وقد أوضح الإمام الشاطبي هذا المعنى وقال:"وهذا النظر كله أساسه كون المصالح مشروعة لإقامة هذه الدنيا لا لنيل الشهوات ولا لإجابة داعي الهوى"(٢) .
الثالث: اعتبار المقاصد الشرعية في الأحكام:
... لكل حكم من الأحكام الدينية مقصد يهدف إلى تحقيقه في حياة الناس، وبتحققه في الواقع تتحقق للإنسان منفعة، أو تدرأ عنه مفسدة، راجعة إلى الأصول الخمسة التي تقدم ذكرها قبل قليل.
... والرابطة بين الحكم وبين مقصده هي: رابطة تلازم على مستوى التجريد.