للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعنى ذلك أن العقل الغريزي يستوي فيه كل الناس دون تفاوت، بل التفاوت بينهم إنما هو في العقل التجريبي، إذ الناس مختلفون في تجاربهم قلةً وكثرة، وكلما كان الإنسان أكثر تجربة ازداد تعقُّلاً بشؤون هذه الحياة.

... وفي تصوري أنه بالموازنة بين هذين التحقيقين لا يستقيم خلاف معنوي بين ما قرره الغزالي والزركشي رحمهما الله تعالى، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: أنهما متفقان على أن العلوم التجريبية محلُُ لتفاوت العقول فيها، إذ أن تلك العلوم خاضعة في قلتها وكثرتها للتجارب التي يخوض الناس غمارها قلةً وكثرةً، أو أنها خاضعة للبحث والنظر، والبحث والنظر مما يختلف باختلاف المدارك والقدرات.

الوجه الثاني: أن ما اختلفا فيه من كون العقل الغريزي قابلاً للتفاوت وعدمه لا تعارض فيه، إذ يمكن تخريجه عن طريق الجمع بحمل القول بعدم التفاوت على العلوم الضرورية لاستواء جميع العقلاء في إدراكها، وحمل القول بالتفاوت على العلوم النظرية التي يختلف فيها الناس بحسب قلة وكثرة تجاربهم، وبحسب اختلافهم في الاستعداد الذهني. وبهذا يؤول خلاف الفريقين في هذه المسألة إلى خلاف لفظي لا تنهض به ثمرة عملية.

المبحث الرابع: سبب الخلاف في تحكيم العقل

تصدَّى لبيان هذا السبب الشيخ محمد الخضري في أصوله حيث قرَّر أن هذا الخلاف يعود إلى المعَّرف لأحكام الله تبارك وتعالى، فمن رأى أن المعرف لها إنماهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة ذهب إلى أنه لا سبيل إلى درك حكم الله تعالى بالعقل قبل البعثة، ومن رأى أن العقل يصلح أن يكون معَّرفاً ذهب إلى أن العقل يمكنه أن يستقل بدرك حكم الله تعالى في الفعل قبل البعثة بناء على ما يدركه من حُسن فيه أو قُبح.

<<  <  ج: ص:  >  >>