.. الواقع أن الشيعة قد أحسوا بتناقض موقفهم واضطراب رؤيتهم فيما قرروا إنكاره وإثباته، فحاولوا جاهدين التوفيق بين إنكارهم حجية القياس حين صرَّحوا بأنَّ (دين الله لا يُصاب بالعقول) ، وإقرارهم بحجة العقل فقالوا: إنَّ المراد من عدم إصابة دين الله تعالى بالعقول هو أنّ الأحكام ومداركها لا تُصاب بالعقول على وجه الاستقلال، بل إنها تصاب من طريق الشارع، وفي ذلك يقول المظفَّر الشيعي: (وأما ما ورد عن آل البيت عليهم السلام من نحو قولهم: " إن دين الله لا يصاب بالعقول " فقد ورد في قباله مثل قولهم: " إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول "، والحل لهذا التعارض الظاهري بين الطائفتين هو: " أن المقصود من الطائفة الأولى بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها في قبال الاعتماد على القياس والاستحسان لأنها واردة في هذا المقام، أي: أنَّ الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول بالاستقلال، وهو حق كما شرحناه سابقاً ومن المعلوم أنَّ مقصود من يعتمد على الاستحسان في بعض صوره هو دعوى أنّ للعقل أنّ يدرك الأحكام مستقلاً ويدرك ملاكاتها، ومقصود مَنْ يعتمد على القياس هو دعوى أنَّ للعقل أن يدرك ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس، وهذا معنى الاجتهاد بالرأي، وقد سبق أنَّ هذه الإدراكات ليست من وظيفة العقل النظري ولا العقل العملي لأن هذه أمور لا تصاب إلا من طريق السماع من مبلَغ لأحكام) (١) .