وفي تصوري أن منعهم من الخطبة يوم الجمعة، لما تتضمنه الخطبة في الغالب من ذكر لأحوال المسلمين، وتتبع الخطيب لمجريات الأحداث، أي أحداث الساعة، وبالتالي قد ينتقد وضع معين قام به النورمان، فتكون النتيجة استحثاث همم المسلمين لمقاومة السيطرة النورمانية على جزيرة صقلية، أو على الأقل إثارة قضية معينة تصعب السيطرة عليها، ولذلك قرر النورمان حظر خطبة الجمعة على المسلمين؛ وهذا فيه تعطيل كبير، وحرمان للمسلمين من عظمة ذلك اليوم، واجتماعهم فيه، ومناقشة أحوالهم، والنظر في متطلباتهم وطموحاتهم.
ومن أعجب ما ذكره ابن جبير عن المسلمين في صقلية هذه الصورة التي سأذكرها، وأترك التعليق لمن يقرأها. قال:(ومن أعجب ما شاهدناه من أحوالهم التي تقطع النفوس إشفاقاً وتذيب القلوب رأفة وحناناً، أن أحد أعيان هذه البلدة – يقصد طرابنش – وجه ابنه إلى أحد أصحابنا الحجاج، راغباً في أن يقبل منه بنتاً بكراً صغيرة السن، فإن رضيها تزوجها، وإن لم يرضها زوجها ممن رضي لها من أهل بلده ... وهي راضية بفراق أبيها وإخوتها طمعاً في التخلص من هذه الفتنة، ورغبة في بلاد المسلمين، فطاب الأب والأخوة نفساً لذلك لعلهم يجدون السبيل للتخلص إلى بلاد المسلمين بأنفسهم، إذا زالت هذه العقلة المقيدة عنهم، فتأجّر هذا الرجل المرغوب إليه بقبول ذلك، وأعنّاه على استغنام هذه الفرصة المؤدية إلى خيري الدنيا والآخرة، وطال عجبنا من حال تؤدي بإنسان إلى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة من القلب، وإسلامها إلى يد من يغر بها، واحتمال الصبر عنها، ومكابدة الشوق إليها والوحشة دونها ... وذلك رغبة في الإسلام واستمساكاً بعروته الوثقى)(١٢٨) .