الموقف الآخر: ليس فردياً وإنما يعود إلى تواضع الجماعة اللغويّة أو المجتمع بشكل عام، فاللغة بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً تخضع الفردَ لِمَا ترسمه فالدوافع النفسيةُ أو العاطفيةُ التي تفرضُ على الجماعةِ اللغوية نهجاً محدداً في التعبير ليس للفرد إلا محاكاتُها واتباعُها، وذلك ينطبق على جُلِّ الدوافع التي تعود إلى الحياة الاجتماعية كالكياسة والتأدبِ والخوفِ والتطيرِ والتفاؤلِ والتشاؤمِ ونحوها من الدوافع التي تلجأ الجماعة اللغويةُ إلى التَّلَطُف بشأنها بعباراتٍ كريمةٍ وألفاظٍ نبيلةٍ، وقد مرّ معنا أنَّ العربَ مثلاً يعيبون على الرجل إذا كان يكاشفُ ويصرحُ فيما حَقُهُ السترُ والتحرزُ والأدبُ.
والأسباب الاجتماعية واضحةٌ جداً في مراعاة التَّلَطُف في مثل هذا الموقفِ، ولكنَّ الحالةَ الاجتماعية تختلفُ من أمّةٍ إلى أمةٍ، ومن بيئة إلى بيئة، ومن جيلِ إلى جيلٍ، فلعل ما يدعو إلى التَّلَطُف عند أمّةٍ لايدعو إليه عند أمّةٍ أخرى، ولا أدَلَ على ذلك إلا ما سبق وأشرنا إليه من أنّ اللاتين مثلاً يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة بعبارات صريحة مكشوفة على حين أنَّ العرب تتلمس أحسنَ الحيل وأدناها إلى الحشمةِ والتأدب في التعبير عن هذه الأمورِ بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ (١) .
وهذا الموقف هو الذى دفع كلاًّ من الثعالبيِّ والجرجانيِّ إلى إفراد هذه الظاهرة بالتأليفِ. يقول الثعالبيِّ عن كتابه:
((هذا كتابٌ، خفيفُ الحجمِ، ثَقِيلُ الوزنِ، صَغيرُ الجرمِ، كَثيرُ الغُنْمِ، في الكنايات عمَّا يُستهجنُ ذكرُه، ويستقبحُ نشرُه، أو يستحيا من تسميته، أو يُتطيرُ منه، أو يسترفعُ ويُصانُ عَنْهُ، بألفاظِ مقبولةٍ تؤدي المعنى، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيحَ، وتلطف الكثيفَ ... )) (٢) .