وما أكثر المراجع التي تناولت الضرورة الشعرية في بحوث مستقلة، أو ضمن المؤلفات العامة التي تشتمل على الضرورة وغيرها من الموضوعات الأخرى (١٧) .
اختلاف العلماء في مفهوم الضرورة الشعرية:
لقد رأينا العلماء الأجلاء يختلفون اختلافاً كبيراً في مفهوم الضرورة الشعرية، وأبرز خلاف (١٨) رأيته في ذلك هو ما كان بين الإمامين ابن مالك الجياني، وأبي حيان الأندلسي - فأبو حيان ينكر على ابن مالك فهمه لضرورة الشعر حيث يقول ابن مالك في أكثر من موضع: ليس في هذا البيت ضرورة، لأن قائله يتمكن من أن يقول كذا ... - ففهم أن الضرورة في اصطلاحهم هي الإلجاء إلى الشيء - فعلى زعمه لا توجد ضرورة أصلاً، لأنه ما من ضرورة إلا ويمكن إزالتها باستعمال تركيب آخر غير ذلك التركيب.
ويبدو من مناقشة أبي حيان لابن مالك أنّ الضرورة الشعرية عند أبي حيان مقصورة على وقت الإنشاد، أي أن الشاعر لم يستطع الإفلات منها حينما أنشد هذا البيت أو ذاك، أما لو أراد بعد ذلك أن يتفادى هذه الضرورة بتعديل البيت أو تغييره نهائياً فإنّه يستطيع ذلك، وبناء عليه لا تكاد توجد ضرورة على الإطلاق.
ويخيّل إليّ أن رأي أبي حيان يتفق مع رأي سيبويه في مفهوم الضرورة الشعرية، غير أن الألوسي يرى أن ابن مالك هو الذي يتفق مع سيبويه في ذلك.
فكيف نوفق بين هذا وذاك؟
يلوح لي أن التوفيق لا يتأتي إلا في ظلال التعمق في فهم النصوص الواردة عن ابن مالك، وبعد البحث والتقصي بدا أنّ الإمام ابن مالك له رأيان في الضرورة الشعرية.
الرأي الأول يتفق مع المأخوذ من كلام سيبويه، وهو أنّ الضرورة الشعرية هي التي
لا مندوحة للشاعر عنها وقت الإنشاد، وذلك لأننا رأينا في أكثر من موقف يُثْبِت الضرورة الشعرية، ويعترف بوجودها، من ذلك مثلاً ما جاء في باب إعراب المتعل الآخر من كتاب التسهيل وشرحه لابن مالك نفسه (١٩) .