وأجيب بأن ظاهر الأمر الوجوب عند جمهور الفقهاء (١) ، ولا يجوز الخروج عن هذا الظاهر إلا بقرينة صارفة تكون في قوة الظاهر أو أقوى منه، ولم يذكر أصحاب هذا التأويل هذه القرينة الصارفة، فيبقى الأمر على أصله من الوجوب (٢) ، بل إن هذا الأمر حفت به قرائن تؤيد الظاهر وتؤكده، وتمنع هذا التأويل، ومن هذه القرائن ما يلي:
١ - إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم الوضوء من لحم الإبل فأجاب بالأمر بالوضوء منه فلا يجوز حمله على غير الوجوب لأنه يكون تلبيساً على السائل لا جواباً (٣) .
٢ - إن الحكم ذكر في جواب السائل، والحكم في مثل هذا لا يفهم منه إلا الإيجاب، كالوضوء من الصوت والريح ومس الذكر (٤) .
٣ - إن الدليل فرق بين لحم الإبل ولحم الغنم، والنهي في لحم الغنم إنما أفاد نفي الإيجاب لا التحريم، فيجب أن يكون في لحم الإبل مفيداً للإيجاب ليحصل الفرق (٥) .
٤ - إن الوضوء مستحب في لحم الغنم – ليخرج من خلاف من قال بوجوب الوضوء مما مست النار – وقد نفاه الدليل في لحم الغنم وأثبته في لحم الإبل، فكيف يحمل الأمر على الاستحباب (٦) ؟ .
٥ - إن الدليل أثبت صفة في الإبل تقتضي الوضوء، والأصل في الأسباب المقتضية للوضوء أن نكون موجبة (٧) .
المناقشة الرابعة:
إن أكل لحم الإبل مما يغلب وجوده فلو جعل حدثاً لوقع الناس في الحرج (٨) .
ونوقش الدليل بالآتي:
١ - لا يسلم لكم أن جعل أكل لحم الإبل حدثاً يؤدي إلى الحرج، إذ الواقع ينفي ذلك لأن الإنسان لا يأكل في العادة لحم الإبل (أو غيره من
اللحوم) إلا مرة في اليوم أو مرتين على الأكثر، فإذا توضأ الإنسان بعد ذلك الأكل (مرة أو مرتين) فأين وجه الحرج؟.
٢ - إن خروج البول حدثٌ بالإجماع يوجب الوضوء، وهو أكثر وجوداً من أكل لحم الإبل إذ الإنسان عادة ما يتبول أكثر من مرتين في اليوم، ومع ذلك لم يكن ذلك سبباً لإيقاع الناس في الحرج.