.. والمطْلع نفسه يحمل أكثر من إشارة إلى ذلك، فهو يأمر نفسه بعدم الاستجابة لنداء قلبه، لأنه لا يخضع لنداء العاطفة إلا الضعيف (الحَصِر) ؛ ويعلن ثورة عارمة على تلك الزوجة التي تجاهلت أخواله فسألته عنهم وهي تعرفهم؛ لأنه إنما يُسأل عن الشيء المجهول. وهو ليس ممن يغضون على الإساءة، وإن جاءته من أحب الناس إليه. وفي مثل هذه الأجواء الانفعالية، والجيشان الشعوري، لا يتوقع المرء أن يمهد الشاعر لتجربته بأية مقدمة.
وأما الثانية فقالها عندما مرّ بنسوة فيهن مطلقته (عمرة) ، فأعرضت عنه، وقالت لامرأة منهن: إذا حاذاك هذا الرجل فاسأليه من هو؟ وانسبيه إلى أخواله. فلما حاذاهنّ سألته، فانتسب لها، فقالت له: فمن أخوالك؟ فأخبرها، فبصقت عن شمالها وأعرضت، فحدد النظر إليها، وعجب من فعالها، وجعل ينظر إليها، فبصر بمطلقته عمرة، وهي تضحك، فعرفها، وعلم أن الأمر من قبلها أتى (٧) ، فقال القصيدة، ومطلعها (٨) :
قَالَتْ لَهُ يَوْمَاً تخَاطِبُهُ
نُفُجُ الحَقِيبَةِ غَادَةُ الصُّلْبِ
والموقف الذي تمخضت عنه القصيدة يكاد يكون تكراراً للموقف الذي تمخضت عنه قصيدته الأولى والاختلاف بينهما يقتصر على بعض التفصيلات، والشخصيات، ولكن جوهر التجربة وباعثها في نفس حسان واحد.
... والقصيدة الثالثة التي خلت من المقدمة في شعر حسان الجاهلي قالها في الرد على قصيدة لقيس بن الخطيم (ت٦٢٠هـ) يوم السرار (٩) ، ومطلعها (١٠) :
لَعَمْر أبيكِ الخَيْرِ يا شَعْثَ مَا نَبَا ... عَلَيَّ لِسَاني في الخُطُوبِ وَلاَ يَدِي