.. وبعد أن يلتمس من يبلغ عنه رسالة إلى أبي قيس يذكره بهزيمة الأوس يوم الجسر، حيث قتل الخزرج والده. وما يلبث أن يهدده بغارة تحيط بالأوس من كل ناحية، يخضع لها عزيزهم، وتسقط لهولها الأجنة من بطون الحوامل، وتشيب الناهد العذراء، ويتشتت فيها شمل الأوس. ثم يوجه خطابه إلى أبي قيس قائلاً: تلك غارة يجود فيها غيرك بنفسه، وتضن فيها بنفسك الخبيثة خشية الموت، فتسمع الصرخات والاستغاثات، وتدعى للقتال، ولكنك تتظاهر بالصمم، وليس بك صمم. ثم يعيره بمن قتل من الأوس.
... ومما لا ريب فيه أن حساناً وقد ضجّت في نفسه أحاسيس النصر، وثب إلى موضوعه دون مقدمة من شأنها أن تؤدي إلى خبّو انفعاله، أو أن تذهب بحرارة التجربة في نفسه.
... لقد عرف الشعر العربي منذ أقدم عصوره إقدام بعض الشعراء على الاستغناء عن المقدمات، وإقبالهم على موضوعات شعرهم دون تمهيد، وبخاصة عندما تجيش نفوسهم بانفعالات قوية، في مواقف طارئة لا تحتمل التريث. ويبدو أنّ ذلك كان شائعاً ومألوفاً، لأن النقاد أطلقوا عليه عدداً من الأسماء، ومنها:((الوثب، والبتر، والقطع، والكسع، والاقتضاب)) (١٥) . ووصفوا القصيدة إذا جاءَت على تلك الحال بأنها بتراء، وشبهوها بالخطبة البتراء. قال ابن رشيق:((والقصيدة إذا كانت على تلك الحال بتراء كالخطبة البتراء والقطعاء)) (١٦) .
... وما كثرة هذه الأسماء والأوصاف إلا دليل على شيوع ظاهرة إهمال المقدمات، وكثرة القصائد التي سلك إليها قائلوها هذا المنهج.