.. وكما نص النقاد على هذا النمط من القصائد، وسموه بأسمائه، ووصفوه بأوصافه، نصوا كذلك على أنّ العرف لم يجْرِ بأنْ يقدم للمراثي بمقدمات تقليدية، قال ابن رشيق ((ليس من عادة الشعراء أن يقدّموا قبل الرثاء نسيبا كما يصنعون في المدح والهجاء)) (١٧) . ونقل عن ابن الكلبي (١٨)(ت ٢٠٦هـ) قوله: ((لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة (١٩)(ت ٨هـ،٦٣٠م) :
أَرَثَّ جَدِيدُ الحَبْلِ من أُمِّ مَعْبَدِ
بِعَاقِبةٍ وَأَخْلَفَتْ كُلَّ مَوْعِدِ)) (٢٠)
... ويعلل ابن رشيق ذلك تعليلاً نفسياً منطقياً، فيقول:((لأنّ الآخذ في الرثاء يجب أن يكون مشغولاً عن التشبيب بما هو فيه من الحسرة والاهتمام بالمصيبة، وإنما تغزل دريد بعد قتل أخيه بسنة، وحين أخذ ثأره، وأدرك طلبته)) (٢١) . وطبيعي جداً أن يتخلى شاعر الرثاء عن المقدمات بكل ألوانها وأشكالها، لأن المقام في الرثاء ((ليس مقام متعة ولهو)) (٢٢) .
... وأرى أن تعليل ابن رشيق السابق للمسألة تعليل قائم على فهم صحيح لطبيعة التجربة الشعرية، وعلى اعتداد بعنصر الصدق الشعوري في العمل الأدبي. وهو في نظري صالح لتعليل خلو قصائد حسان السابقة، وسواها من المقدمات، وذلك لأن نفس حسان وإن لم تكن حزينة في قصائده السابقة إلا إنها كانت متوترة، ومشغولة بما هي آخذة فيه من الفخر والهجاء الذي فجره الموقف في نفسه.
... ومع ذلك فإننا نجد باحثا ذا باع طويل في دراسة مقدمة القصيدة العربية، هو الدكتور حسين عطوان يرفض هذه الفكرة، ويكاد يصر على أنها ترجع في بعض جوانبها إلى ضياع المقدمات من تلك القصائد، ويكاد يطمئن إلى ذلك في تعليل هذه الظاهرة (٢٣) ، بانياً موقفه ذاك على أساسين:
أولهما: وقوفه على شاهد واحد على ما يذهب إليه، هو قصيدة النابغة الذبياني (ت١٨ق. هـ/٦٠٤م) التي رواها الأصمعي على أنها تبدأ بقوله (٢٤) :