للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

.. وعلى الرغم من أن حساناً لم يكن من سكان البوادي، وإنما من أهل المدن إلا أنه لم يستطع أن يتخلّص من التقاليد الفنية البدوية أو الخروج عليها بحيث يبتدع نظاماً جديداً لمقدمات قصائده، أو يخالف كل المخالفة نظامها عند شعراء البوادي (٧٤) . شأنه في ذلك شأن جميع شعراء الحواضر أو شعراء القرى العربية كما يسميهم ابن سلام (٧٥) ، يستوي في ذلك الشعراء الذين أمضوا حياتهم فيها أو رحلوا إليها أو ((وفدوا على قصور الملوك التي كانت تزخر بألوان الحضارة)) (٧٦) .

... فقد حرصوا جميعاً على التمسك بأصول هذه المقدمة وعناصرها. ولكن من المؤكد أنّ الصورة العامة للمقدمة الطللية لم تكن جامدة، بل كانت تحتلف من شاعر إلى آخر ((في التفاصيل والجزئيات، أو في طريقة العرض، أو اختيار الألوان والزوايا، أو في توزيع الظلال والأضواء، فمثل هذا الاختلاف طبيعي في كل عمل فني أصيل)) (٧٧) .

... وتمثل هذه الصورة عند حسان مقدمتان، إحداهما: مقدمة قصيدته اللامية التي مطلعها (٧٨) :

أسألْتَ رسمَ الدَّارِ أمْ لمْ تسألِ

بينَ الجَوابي فالبُضَيع فَحَوْملِ

وتقع في ستة أبيات، وقف فيها الشاعر على الأطلال التي اندثرت آثارها وعفت رسومها بين الجوابي، فالبضيع، فحومل، فمرج الصفّرين، فجاسم، فتبنى، وجميعها من منازل الغساسنة في الشام. فسألها عن أهلها الظاعنين، وتحسر على إقفارها من أحبته الذين كانوا يحلون بها، ووصف تعاقب الرياح في عرصاتها، وانهمار الأمطار في ساحاتها، وكيف طمست معالمها، وغيرت ما كان يعرفه منها. ثم أرسل دمعه الهتّان لما أثارته تلك المنازل الدارسة، والديار الموحشة في نفسه من أشجان بعد أن كانت عامرة بأهلها ذوي العز الشامخ والمجد الباذخ، ثم دلف إلى المدح:

فالمرجِ مرجِ الصُّفَّريْنِ فَجَاسِمٍ

فديارِ تُبنى دُرَّساً لم تُحْلَلِ

أَقْوى وعُطِّلَ منهمُ فكأنَّه

بَعْدَ البِلَى آيُ الكتابِ المُجْمَلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>