للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

.. والتكثيف والتركيز هما الظاهرة البارزة في هذه المقدمة، وكأني بحسان وهو يردّ على أبي قيس بن الأسلت، وينقض عليه قصيدته التي سبقت الإشارة إليها، كان يتطلع إلى الوصول إلى موضوعه مسرعا، فأعجله ذلك عن التفصيل، وألجأه إلى التكثيف والتركيز.

... يتبين مما سبق أن حسان في مقدمتيه الغزليتين لم يتبع التقاليد الموروثة في المقدمة الغزلية، ولم يحذُ حذو الشعراء الجاهليين الذين سبقوه، فجاءَت مقدمتاه موجزتين؛ كما يلاحظ فيهما اهتمامه بإدخال عناصر الطبيعة، وبخاصة الماء، والخصب.

الصورة الثالثة: المقدمة الطللية الغزلية

... وفي هذه الصورة يتضافر على تشكيل المقدمة لوحتان: لوحة الأطلال، ولوحة الغزل. ففي اللوحة الأولى يصور الشاعر ((أطلال الحبيبة الراحلة التي عفت وأقفرت بعد رحيلها، وما يراه فيها من آثار الحياة الماضية التي كانت تدب فيها أيام كانت آهلة بأصحابها، قبل أن تتحول بعدهم إلى مجرد أطلال موحشة، تسفي عليها الرمال، فتحجبها، وتخفي معالمها، وتهب عليها الرياح فتكشفها، وتبدي رسومها، وأسراب الحيوان الوحشي تسرح في ساحاتها آمنة مطمئنة، حيث لا إنسان يفزعها أو يثيرها)) (٨٧) .

... وطبعي أن يستدعي هذا الإطار المكاني وما يثيره في النفس من مشاعر، العنصر الإنساني، فيتبع الشاعر لوحة الطلل بلوحة صاحبته التي نأت، فيقبل عليها واصفاً جمالها ((ويلح على تبيان محاسنها، حتى يكاد يظهرها عضواً عضواً، ولا يترك شيئاً منها، بل يأتي على كل شيء، كأنما يريد أن يشخص هذه الأعضاء تشخيصاً)) (٨٨) ، ولا بدّ أن يثير استدعاؤه لصورة صاحبته، واستحضاره لجمالها، في نفسه الحسرة على أيامه الخالية، وذكرياته الماضية، ((فيصور حبه وغرامه، وآلامه وأحزانه، ويأسه وحرمانه، فيذرف الدموع، ويسفح العبرات)) (٨٩) على ماضيه المنصرم.

<<  <  ج: ص:  >  >>