.. وقد تبنى حسان هذه الصورة من صور المقدمات في قصيدتين من قصائده الجاهلية، أولاهما: قصيدته الميمية التي مطلعها (٩٠) :
لِمْن مَنْزلٌ عَافٍ كأنَّ رُسُومَهُ
خَيَاعيلُ رَيْطٍِ سَابرِيٍّ مُرَسَّمِ
ومقدمتها ثانية مقدمات حسان من حيث الطول، وتبلغ ستة عشر بيتاً. وهو يستهلها بالسؤال عن أهل منزل عفت رسومه، وأقوت معالمه، ودرست آثاره حتى غدا كثياب فارسية رقيقة مخططة لا أكمام لها. إنه منزل مقفر خال من آثار الحياة ودلائلها، إلا من ثلاث أثافٍ ركّد، كأنها ثلاث حمائم جُثَّم، ومن وتد بال، وبقايا حائلة كأنها ثوب قديم موشى.
... لقد عاثت رياح الصيف في ذلك المنزل، فهي تعتاده مرّة إثر أخرى، فيتجمع هشيمه الجاف على بقايا نؤي قد تثلمت حوافه، وامتدت إليه يد البلى فكسته من سرابيلها الدائرة، كما عبثت في معالمه سحب سود ضخمة كأنها الجبال، يثقلها ما تقل من أمطار، تزجيها الرياح وتقصف في جوانبها الرعود، ويومض البرق، وما تلبث عراها أن تنفصم عن مطر غزير مسح متواصل.
... إنه يعهد ذلك المنزل عامراً بأهله الذين تجمع بينهم البهجة، وترفرف عليهم الغبطة، وتخيم عليهم الأُلفة، وتربطهم أواصر المحبة؛ فهل إلى حبال الود التي رثّت من عودة؟ ويستيقظ الشاعر من تلك الأحلام اللذيذة، والذكريات الوادعة، على قسوة واقعه المر، فقد نأت دار ليلى، وتبدلت بوصلها هجراً، وبودّها صداً، وبقربها نأيا، وانبتت حبال الوصل التي كانت ممتدة بينهما، بعد أن أصغت ليلى إلى حديث الواشين والكاشحين.
... وإذا كانت الأيام وتقلباتها قد غيرت من مشاعر ليلى نحوه، فإنه ما يزال مقيماً على الود يتشبث بحباله، ويرعى ذكرياته، ويصون أسراره، ويحرص كل الحرص على كتمانه بين ضلوعه. وسيبقى حفيا بودها، على الرغم من صدها وهجرها، وإصغائها إلى الذين روّجوا عنه الأقاويل والأراجيف. يقول حسان: