وهي كسابقتها تسهم في تشكيل مقدمتها لوحتا الطلل والغزل. أما لوحة الطلل فيستهلها بالوقوف على بقايا دار أقفرت من ساكنيها، فخيمت عليها الوحشة، وتسللت إليها عوامل البلى، فيسأل عن مصير أهلها الذين هجروها، ثم يحدد موقعها تحديداً دقيقاً، كأنه يريد أن يحفرها حفراً في ذهن السامع، مما يدل على شدّة تعلقه بها؛ فيذكر أماكن شامية من أعمال دمشق، بعضها ناء عنها، وبعضها قريب منها، يعد من ضواحيها، وبعضها يقع جنوبي الأردن، أو بين دمشق وبحيرة طبرية، وهي: معان، والخمان، وبلاس، وداريا، وسكاء، وجاسم، وأودية الصفّر، وجميعها من منازل الغساسنة.
... ثم يشيد بتلك المواضع، وبما شهدته منازلها من عزّ ومجد، فقد كانت تعج بقنابل الخيل والفرسان، وبكرائم الإبل وبيضها، ويطلق عليها لقب (دار العزيز) ، ويستعيد ذكرياته بها، أيام زياراته المتكررة لها في عهد الحارث بن أبي شمر الغساني، فيقول بعد المطلع:
فَسَكَّاءَ فَالقُصُورُ الدَّوانِي
(م)
فَالقُرَيَّاتُ مِنْ بَلاَسَ فَدَارِيَّا
مغنى قَنَابِلٍ وهِجَانِ
(م)
فَقَفَا جاسمٍ فَأَوْدِيةِ الصُّفَّر
وَحُلُولِ عَظِيمةِ الأَرْكَانِ
تِلْكَ دارُ العَزيزِ بَعْدَ أنيسٍ
يومَ حَلَّوا بِحَارثِ الجَوْلانِ
هَبِلَتْ أُمُّهُمْ وَقَدْ هَبِلَتْهُمْ
وهنا ينقلنا من لوحة المكان إلى اللوحة الغزلية، لوحة الإنسان، فيرسم لوحة تعج بالفتنة والحياة، ومظاهر الترف والنعمة، تظهر فيها الجواري الحضريات عاكفات على نظم أكلّة المرجان، أو مجتنياتِ زهور الزعفران، أو متطيبات بدهنه، في مآزرهن البيض الرقيقة، وثياب الكتان المضمخة بالعطور، استعداداً ليوم عيد الفصح.