.. فضلاً عن أن ذكريات الشاعر بتلك الأماكن لا تثير في نفسه الوجد والصبابة بقدر ما تثير الإعجاب بأمجاد الغساسنة وعزّهم. وهو لا يتحدث عن الظعن والمراكب التي تقلّ نساء الحي، وبينهن صاحبته، ولكن عن جماعات الخيل، وكرائم الإبل التي يقتنيها الغساسنة.
... وإذا كانت اللوحة الطللية من مقدمته السابقة قد أصابت هذا القدر من التطوّر؛ فإن اللوحة الغزلية من تلك المقدمة قد انحرفت انحرافاً كبيراً عن مناهج الجاهليين وطرائقهم؛ فهو لم يذكر امرأة بعينها، وإنما وصف الجواري اللاتي كان يراهن في بلاط الغساسنة، ولم يتغن بجمال المرأة الحسي أو النفسي، بل كان مبهوراً بزينتها وعطورها، من أكلّة المرجان، وطيوب الزعفران، ومجاسد الكتان. وعواطفه تجاهها لم تكن هياماً، ووجداً، ولهفة، ولوعة؛ ولكن كانت إعجاباً بالطيوب، والثياب، ومظاهر الزينة. وهو لم يتحدث عن محاسنها حديثاً مكشوفاً كما كان يفعل امرؤ القيس أو الأعشى، أو المنخل وسواهم، كما لم يصف مشهد الوداع أو الرحيل. وأهم من ذلك أنه ضمّن لوحته عنصراً جديداً لم تعهده المقدمات الغزلية التقليدية، يتمثل في تفضيل المرأة الحضرية التي تعيش في قصور الغساسنة، على البدوية التي تتخذ وسائل الزينة البدائية، فتلبّد شعرها بصمغ الثُّمام، وتنتقف الحنظل.
الصورة الرابعة: المقدمة الظعنية الغزلية
... هذه صورة أخرى من صور المقدمات في قصائد حسان الجاهلية، وهي تتألف من لوحتين: لوحة الظعن، واللوحة الغزلية.
... ومقدمة الظعن من المقدمات الرئيسة في القصيدة الجاهلية، إذ تتراءَى في سماء الشعر الجاهلي أسراب منها ((تعود إلى فترة مبكرة من عمره، تدل بقدمها على رسوخها وأصالتها، آية ذلك أنها تطالعنا في قصائد الشعراء المتقدمين، مثل: المرقش الأكبر، وعبيد بن الأبرص، وسلامة بن جندل، وطفيل الغنوي، وبشر بن أبي خازم)) (٩٢) .