الصورة الخامسة: المقدمة الطللية الظَّعْنيَّة الغزلية
... تلتقي في هذه الصورة من صور المقدمات في قصائد حسان الجاهلية ثلاث لوحات: لوحة الطلل، ولوحة الظعن، واللوحة الغزلية.
... وبهذه الصورة استهل حسان قصيدته الفخرية الميمية التي مطلعها (٩٥) :
ألَمْ تَسْأَلِ الرَّبْعَ الجَديدَ التَّكَلُّمَا
بِمدْفَعِ أَشْدَاخٍِ فَبُرْقَةَ أَظْلَما
وهي من أطول مقدماته. وتقع في ستة عشر بيتاً. وقد افتتحها بلوحة الطلل فوقف عليه، وسأله عن الربع الدارس الذي استعجم عن رد جوابه، وكيف يجيبه رسم أبكم؟ إنه طلل دار تقع في مكان خصيب، يندفع بين ربوعه وادي أشداخ بالقرب من جبل أظلم، ماراً بمنعطف وادي نقيع، حيث تستوي الأرض في بطن يَلْبَن.
... لقد أقفرت تلك الديار، وخلت من أهلها الذين عمروها زمنا، فقد غادروها إلى تهامة. إنها ديار صاحبته التي طالما تردّدت على جبلي تغلم، ووادي المراض الذي ترعرع في عدوتيه شجر الأراك وأينع، وتمايلت أغصانه مزهوة بخضرتها.
... وحين انقضى فصل الربيع صوّح المرعى، ولم تعد تسمع سوى حمحمة الرعد، تتجاوب أصداؤها مع حنين مطافيل الإبل التي نتجت في فصل الربيع، فيتردد صداه في أكناف وادي العقيق، وهضبة الجمَّاء، حتى إذا ارتفع سحابه فوق تُرْبان، انفصمت عراه، وانهلّ ودقه، وألقى بعاعه، وتمخض عن سيل هادر يقتلع كل ما يعترضه من شجر العضاه. يقول حسان بعد المطلع:
أَبَى رَسْمُ دارِ الحَيِّ أَنْ يَتَكَلَّمَا
وهلْ يَنْطِقُ المَعْرُوفَ منْ كانَ أبْكَمَا
بقَاعِ نَقَيعِ الجِزْعِ من بَطْنِ يَلْبَنٍ
تَحَمَّلَ مِنِهُ أَهْلُهُ فَتَتَهَّمَا
دِيَارٌ لشَعْثَاءِ الفؤادِ وَتِرْبِها
ليَاليَ تَحْتَلُّ المَراضَ فَتَغْلَمَا
وإِذْ هِيَ حَوْرَاءُ المَدَامِعِ تَرْتَعِي
بِمُنْدَفَعِ الوادي أَرَاكاً مُنَظَّمَا
أَقَامَتْ بهِ في الصَّيْفِ حَتَّى بَدَا لهَا