.. وخلت هذه اللوحة الطللية من التشبيهات المعهودة، سواء فيما يتعلق بآثار الديار، أو ببقاياها. ولكنها اشتملت على كثير من العناصر التقليدية مثل: ذكر أسماء الأماكن، والعطف بينها بالفاء، وتحديد مكان الطلل تحديداً جغرافياً دقيقاً، والسؤال عن أهله الظاعنين. وأسهب في وصف ما غير معالمه، وبخاصة الأمطار، وإن كان قد أغفل ذكر الرياح التي تسفي عليه التراب. فقد انقضى فصل الصيف وأخذت السماء تتلبد بالغيوم، واكفهرَّ الجو، وحمحم البرق في أرجاء وادي العقيق، فامتزج بحنين الإبل التي نتجت في الصيف، وما لبث البرق أن أومض، فانهمر المطر غزيراً على تُربان وهضبة الجماء، فأسفر عن سيل عظيم يتدافع ماؤه، ويقتلع كل ما يعترض طريقه من الأشجار. وكان ذلك إيذاناً برحيل القوم عن تلك الأماكن بعد أن قضوا فيها فصل الربيع. وهنا تبدأ اللوحة الثانية، لوحة الظعن. وهي لوحة تتحول إلى مشهد يبدأ بصورة صوتية للحي تسمع فيها أصوات الرجال تتعالى، فينادي بعضهم بعضاً، في هزيع الليل الأخير استعداداً للرحيل، ثم ينقلنا إلى صورة بصرية تظهر فيها الهوادج وقد استوت على عجل فوق ظهور الإبل، تزينها البسط الموشاة بالألوان الزاهية، ومدّت الظعائن أعناقاً كأعناق الظباء من خلال البرود اليمنية الموشاة، وينتهي هذا المشهد بإشارة سريعة إلى أن القوم سيحلون ديار غفار وأسلم، بنواحي تهامة.
... ومع أن حساناً قد أتى في هذه اللوحة على أكثر عناصر مقدمة الظعن، من: وصف الاستعداد للرحيل، ووصف الهوادج، وما تكللت به من أنماط وبرود ملونة؛ وحدّد نهاية الرحلة وغايتها، إلا إنه أغفل ذكر الحادي والدليل، وتجنب وصف الطريق التي سلكتها الرحلة، ولم يتتبع الركب، كما كان يفعل سواه من شعراء المرحلة الثانية من الشعر الجاهلي، ممن وصفوا الظعن. قال حسان: