للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

.. وواضح أن التكثيف في لوحة الطلل عند حسان قد بلغ منتهاه، فلم يذكر الشاعر سوى قليل من عناصر المقدمة الطللية، على نحو من الإيجاز الشديد، وأعرض عن ذكر سائر العناصر والتقاليد؛ فحين ذكر ما غير الديار اقتصر على تقادم العهد، ولم يأت على ذكر الرياح والأمطار؛ وحين عرض لبقايا الديار، اكتفى بذكر النؤي، وتنكب ذكر ما سواه من أثاف، ورماد، ودمن وأوتاد. وخلت اللوحة من التشبيهات المعهودة في اللوحة الطللية.

... وينقلنا حسان إلى اللوحة الغزلية، وفيها يعترف بأن الواشين حققوا ما سعوا إليه، فتبدلت شعثاء بوصلها هجراً، ورثت حبال الود بينها وبينه، فغدا لا يراها إلا في المنام، إذ تعذرت رؤيتها في اليقظة. ثم يصف جمال صاحبته سالكاً إليه سبيل التصوير، فيرسم لها صورة فاتنة إذ يشبهها بظبية مُطفل، ترتعي مع خشفها سفوح جبل برام، ويختار لها مشهداً فاتناً، إذ يجعلها ترنو إليه نظرة إشفاق وحنو؛ لأنه ما يزال صغير السن قليل الحيلة، فاتر الطرف، متقارب الخطو، ضعيف الصوت.

... ثم يقف عند موضع الفتنة من شعثاء، ثغرها الذي يشبه رضابه ماءً بارداً سلسلاً، ينسكب من بين صخور جبل، فيحفر في أصله، ليتجمع في حوض تراصفت حجارته وتقاربت، وعلاه غمام كثيف، فيقول:

قدْ أدْرَكَ الوَاشُون مَا حَاوَلوا

فالحَبْلُ منْ شَعْثَاءُ رَثُّ الزِّمَامْ

جِنِّيَّةٌ أَرَّقَنِي طَيْفُهَا

تَذْهَبُ صُبْحَاً وتُرَى في المَنَامْ

هَلْ هِيَ إلاَّ ظَبْيَةٌ مُغْزِلٌ

مَأْلَفُها السِّدْرُ بِنَعْفَيْ بَرَامْ

تُزْجِي غَزَالاً فَاتِراً طَرْفُهُ

مُقَارِبَ الخَطْوِ ضَعيفَ البَغَامْ

كأنَّ فَاهَا ثَغَبٌ بَارِدٌ

في رَصَفٍ تحت ظلالِ الغَمَامْ

<<  <  ج: ص:  >  >>