وواضح أن حساناً قد ضمن هذه اللوحة أغلب عناصر المقدمة الغزليةالتقليدية، وهو إن فاته وصف مشهد الوداع المعهود في المقدمة التقليدية، إلا إنه استعاض عنه بحديث الواشين. وأجاد حين خلع على صاحبته صورة الظبية المطفل، ووقف عند ثغرها ورضابها، حيث لم يكتف من الصورة بالإجمال، بل أخذ يستقصي جوانبها، ويتتبع جزئياتها، ويولّد في معانيها، حتى بلغ من ذلك كل ما أراد من التعبير عن شدة افتتانه بها.
... وينتقل حسان بالقارئ إلى اللوحة الثالثة من مقدمته، اللوحة الخمرية، التي أتى بها على سبيل الاستطراد في وصف رضاب صاحبته، كما فعل الأعشى في مقدمة قصيدته التي مطلعها (٩٨) :
أَلَمَّ خَيَالٌ منْ قُتَيْلَةَ بَعْدَمَا
وَهَى حَبْلُهَا منْ حَبْلِنَا فَتَصرَّمَا
حيث جاء بلوحة الخمر لتصوير الأثر الذي تركه طيف صاحبته (قتيلة) في نفسه عندما ألمّ به فقال:
فَبِتُّ كأَنّي شَارِبٌ بَعْدَ هَجْعَةٍ
سُخَامِيَّةً حَمْرَاءَ تُحَسَبُ عَنْدَمَا
إِذَا بُزِلَتْ مِنْ دَنِّها فَاحَ رِيحُهَا
وَقَدْ أُخْرجَتْ مِنْ أسودِ الجَوْفِ أدْهَمَا
لَهَا حَارِسٌ مَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا
إِذَا ذُبِحَتْ صَلّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
ومضى في وصفها.
... وفي هذه اللوحة يزعم حسان أن رضاب صاحبته ليس ألذ من الماء الزلال فحسب؛ بل أشهى منه، وإن مزج بصبهاء معتقة في بيت رأس، اعتنى بها صاحبها، وبالغ في حفظها والحرص عليها عاماً بعد عام، مؤملاً أن تعود عليه بربح وفير، ومعلقاً عليها آمالاً عظاماً في ثراء عريض؛ فإذا ما شربت دبت في عروق شاربها دبيب صغار النمل في الرمل المستوى اللين، وسرى الفتور في مفاصله وعظامه، إنها صهباء من خمر بيْسان، يسعى بها ساق أعجمي، مدّهن بالطيوب، يعتمر قلنسوة طويلة، متوقد النشاط، سريع الاستجابة لمن يدعوه، لا يثنيه عن خدمته شيء، يقول، حسان (٩٩) :