فاستهلها بلوحة وصف الليل، وفيها يشكو من هم ثقيل يلقي عليه بجرانه، ويجثم على صدره، فيجعله يحس بأن الليل بالخمان أطول مما عهده بكثير، فيحاول أن يقطعه بمراقبة النجوم، والتلهي بعدها، ومتابعة حركتها، حتى لكأنه موكل بها؛ أو كأنما قطع على نفسه عهداً بألا يخلد إلى النوم حتى يتأكد من غياب آخر نجم منها. وقد أبت تلك النجوم الحركة، حتى إن أوائلها لا تغيب أبداً، فضلاً عن أواخرها. وها هو ذا يراقب حركتها البطيئة، وقد جفا النوم عينيه، ويتابعها نجما نجما، فيهيأ له أنها إبل مُعيِيَة يظلع بعضها في إثر بعض.
... ولا يلبث الشاعر أن يكشف عن سبب ذلك الهم الثقيل الذي يحول بينه وبين النوم، فإذا به الخوف من فراق صاحبته المفاجئ، أو مباغتة قومها له بالرحيل، يقول حسان بعد المطلع: ...
أَبيتُ أُرَاعيَها كَأَنّي مُوَكَّلٌ
بِهَا ما أُرِيدُ النَّوْمَ حتَّى تَغَيَّبَا
إِذَا غَارَ مِنْهَا كَوْكَبْ بَعْدَ كَوْكَبٍ
تُرَاقِبُ عَيْنِي آخِرَ الَّليْلِ كَوْكَبَا
غَوَائِرَ تَتْرَى من نُجُومٍ تَخَالُهَا
مَعَ الْصُّبْحِ تَتْلُوهَا زَوَاحِفَ لُغَّبَا
أَخَافُ فَجَاءَاتِ الفِراقِ ببَغْتَةٍ
وَصَرْفَ النَّوَى من أنْ تُشِتَّ وَتَشْعَبَا
وهموم حسان الثقيلة، وليله الطويل الذي لا تتحرك نجومه نحو المغيب، تذكرنا بهموم النابغة، وليله، ونجومه. في بعض مقدماته التي وصف فيها الليل.