للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

.. وتسلمنا لوحة وصف الليل وتداعياتها في مقدمة حسان السابقة إلى لوحة الظعن. وقد رأيناه يختم الأولى بإبداء مخاوفه من فجاءَات الفراق، وصروف النوى. فإذا به يستهل الثانية بتأكيد أن مخاوفه قد تحققت، فقد أخذ رجال الحي في تقويض الخيام، وزمّ الأمتعة، استعداداً للرحيل؛ وتعالت أصواتهم تنبئ عن وشك الفراق، وارتفع الصوت المشؤوم، صوت الغراب ينعب من على غصن شجرة بانٍ قريبة، منذراً باغتراب الأحبة وبَيْنِهِم، فأيقن الشاعر بحتمية وقوع ما كان يحذره، وعزّز ذلك في نفسه مرور الطير عن يساره، مما ضاعف تشاؤمه.

... ويكمل حسان هذه اللوحة المؤثرة بوصف أثر الفراق في نفسه، فيبين أنّ مشهد تقويض الخيام أصابه بالذهول، وجعله في حيرة تركت رأسه أشيب، ودب في نفسه صراع بين العاطفة والعقل، فقلبه يهيب به أن يمتطي ناقته، ويخف في أثرهم، وعقله يأمره بتوخي الاتزان.

... ولا يغفل الشاعر عنصر الزمن في هذه اللوحة، فيحدده بوقت الأصيل، عندما أخذت الشمس تجنح نحو المغيب، يقول حسان:

وَأَيْقَنْتُ لَمَّا قَوَّضَ الحَيُّ خَيْمَهُمْ

بِرَوْعَاتِ بَيْنٍ تَتْرُكُ الرّأْسَ أَشْيَبَا

وأِسْمَعَكَ الدَّاعِي الفَصِيحُ بِفُرْقَةٍ

وَقَدْ جَنَحَتْ شَمْسُ النَّهارِ لتَغْرُبَا

وَبيَّنَ في صَوْتِ الغُرابِ اغْتَرابُهُمْ

عَشِيَّةَ أوْفَى غُصْنَ بانٍ فَطَرَّبَا

وفي الطَّيْرِ بالعَلْيَاءِ إِذْ عَرَضَتْ لنَا

وَمَا الطَّيْرُ إِلاَّ أَنْ تَمُرَّ وَتَنْعَبَا

غَداةَ انْبَرى قَلْبي يُنَازِعُهُ الهَوَى

أنازِعُ نفْسي أنْ أقُومَ فَأرْكَبَا

<<  <  ج: ص:  >  >>