.. ومن الواضح أنّ الشاعر قد أغفل كثيراً من تقاليد مقدمة الظعن وعناصرها التي تواضع عليها من سبقوه من شعراء الجاهلية؛ فلم يصف الإبل، وما حملت من هوادج، وثياب، ولم يتحدث عن ألوانها وشياتها، كما لم يتطرق إلى الحادي والدليل، وحرّاس القافلة الأشداء، ولم يلمّ بالطريق الذي ستسلكه الظعن، وما يحفّ به من مخاطر، وما يتناثر على جانبيه من عيون مهجورة أو صالحة، كما لم يكشف عن أسباب الرحيل، ولا عن الغاية التي ستنتهي إليها الرحلة.
... وإذا كان حسان قد عدل عن كل هذه العناصر التي تُعَدُّ من مقومات مقدمة الظعن، فإنه قد أضاف عنصراً جديداً مهماً إلى تلك المقدمة، هو صورة الغراب، الذي يمثل في الوجدان العربي رمز التشاؤم، والفراق، والبين، كما أفاد من أسطورة (١٢٢) السانح والبارح التي كان يؤمن بها كثير من الجاهليين. وفي الوقت نفسه أسس للربط القوي بين لفظ (الغراب) ومعنى الاغتراب أو الغربة، وبين لفظ (البان) ومعنى البين، هذا التأسيس الذي أكثر الشعراء العرب بعده من استلهامه والنسج على منواله.
... وبهذا يكون حسان قد تطوَّر بمقدمة الظعن تطوراً ذا شأن عندما وظف بعض العناصر الأسطورية، واستعان بها في رسم جو التشاؤم والخوف محققاً بذلك تميزاً عن سابقيه، وممهداً للتوسع في ذلك عند من جاء بعده من الأمويين وسواهم، ولا سيما جرير الذي ردد هذا العنصر كثيراً في مقدمات الظعن التي استهل بها بعض قصائده.