ويجد الدارس فضلاً عن ذلك كثيراً من مظاهر الجدة في مقدمات حسان الجاهلية إذا ما قيست عناصرها ومقوماتها بتلك التي كانت سائدة في مقدمات سابقيه. كما يجد مظاهر أخرى للانحراف ببعض عناصر المقدمة ومقوماتها نحو التعبير عن معان وأحوال تتصل بحياة حسان، وظروفه، وتجاربه الذاتية، منها:
أولاً: إكثاره من ذكر أماكن تقع خارج الجزيرة العربية. فقد ردد حسان في مقدماته كثيراً ذكر مواضع تقع في ديار الغساسنة، كالذي يجده القارئ في قصائده: اللامية (١٤٠) ، والنونية (١٤١) ، والدالية (١٤٢) .
ثانياً: تعبيره عن الإعجاب بأمجاد الغساسنة وعزّهم، في مواضع كان سابقوه يعبرون فيها عن أشواقهم، وصبواتهم إلى المرأة، كما نجد في لوحته الطللية التي افتتح بها قصيدته النونية.
ثالثاً: قد لا يثير وقوفه بالأطلال في نفسه صورة الظعن ومراكب النساء، وإنما يدفعه إلى استعادة صورة قنابل الخيل، وكرائم الإبل عند الغساسنة، كما في قصيدته النونية سالفة الذكر.
رابعاً: لا يذكر حسان في بعض لوحاته الطللية الأحبة الظاعنين، ولا يستعيد ذكريات الحب، أو يشكو تباريح الهوى، وإنما يستعيد ذكرياته في ديار الغساسنة، ويشيد بسالف عزّهم، كما في قصيدته اللامية.
خامساً: قد ينحرف حسان في بكائه عن نهج السابقين، فلا يبكي الأحبة الغائبين، بل يبكي قومه الغساسنة. انظر إليه يقول: (١٤٣)
فَالعَيْنُ عَانِيةٌ تَفِيضُ دُمُوعُهَا
لِمَنازِلٍ دَرَسَتْ كَأَنْ لَمْ تُوءَلِ
دَارٌ لِقَوْمٍ قَدْ أَرَاهُمْ مَرَّةً
فَوْقَ الأَعِزَّةِ عِزُّهُمْ لَمْ يُنْقَلِ
سادساً: سبق الحديث عن تخلي حسان عن فكرة الرفيقين في لوحاته الطللية. ولكننا نجده يخاطب شخصين في مقدمة قصيدته الطائية،
فيقول (١٤٤) :
بَلِّغَاهَا بِأَنَّنِي خَيْرُ رَاعٍ
لِلَّذِي حَمَّلَتْ بِغَيْرِ افْتِراطِ