من هذا اللون من الرسائل كتاب عمرو بن مسعدة إلى صديق له، وفيه يقول:
((وصل إليّ كتابك على ظمأ منّي إليه، وتطلّع شديد، وبعد عهد بعيد، ولوم مني على ما مسني به من جفائك على كثرة ما تابعت من الكتب، وعدمت من الجواب، فكان أول ما سبق إليّ من كتابك السرور بالنظر إليه، أنساً بما تجدد لي من رأيك في المواصلة بالمكاتبة، ثم تضاعُف المسرة بخبر السلامة، وعلم الحال في الهيئة، ورأيتك بما تظاهرت من الاحتجاج في ترك الكتاب سالكاً سبيل التخلص مما أنا مخلصك منه بالإغضاء عن إلزامك الحجة في ترك الابتداء والإجابة، وذكرت شغلك بوجوه من الأشغال كثيرة متظاهرة مملة لا أجشّمك متابعة الكتب، ولا أحمل عليك المشاكلة بالجواب، ويقنعني منك في كل شهر كتاب، ولن تُلزِم نفسك في البر قليلاً إلا ألزمت نفسي عنه كثيراً، وإن كنت لا أستكثر شيئاً منك، أدام الله مودتك، وثبّت إخاءك، واستماح (١) لي منك، فرأيك في متابعة الكتب ومحادثتي فيها بخبرك، موفّقاً إن شاء الله (٢)) ) .
وهذه الرسالة من ابن مسعدة يُفهَم منها أنها جواب لرسالة وردت إليه من صاحب له، عزيزٍ عليه، وهنا يأتي حديثه عن كتاب صديقه إليه، وتعبيره عن شعوره به، حديث الغَزِل الذي يرى في وصوله إلى محبوبه غاية مُناه وآماله، والذي حظي بلقاء مالك وُدِّه بفارغ الصبر بعد طول البعاد والغياب.
وفي هذه الرسالة تمتزج أحاسيس الشوق، بأنّات الشكوى، مع رقيق العتاب على التقصير في مواصلة المكاتبة والمراسلة.
فالكاتب كما يظهر للقارئ تتنازعه مجموعة من الأفكار، التي يرى نفسه نهباً بينها، فكل واحد منها حريص على أن يظفر باهتمامه فيستولي على مجامع قلبه، ويمسك بزمام قلمه؛ ليوجّه ريشته فتخطّ ما تزاحم عليه من الهموم والأشجان، أو الأشواق والأفراح، بعد أن جاءته رسالة صاحبه، فأراد أن يجيب عليها بعميق حسّه، وصادق شعوره.