وكتب إلى أحد أصحابه المكرمين عنده:((وأنا أحب أن يتقرّر عندك، أنّ أَمَلي فيك أبعد من أن أختلس الأمور اختلاس من يرى أن في عاجلك عوضاً من آجلك، وفي الذاهب من يومك بدلاً من المأمول في غدك (١)) ) .
وفي هذا الرسالة يؤكّد ابن مسعدة لصاحب من أصحابه ذوي الحظوة عنده طول أمله فيه، ويطمئنه علىالصلة القوية بينهما، فهو لا يتعجّل أموره ولا يبادرها مبادرة من يخاف على حاضره، أو يخشى على مستقبله.
وهكذا تظهر شخصية ابن مسعدة في رسائله الإخوانية كما ظهرت شخصية غيره من الكتاب في هذا النوع من الرسائل؛ ولا غرو في ذلك فهذا النوع من الرسائل أقدر على نقل أحاسيس الكاتب، والإفصاح عن قَسَماته النفسيّة، والكشف عن مكنونات نفسه، ولواعج قلبه. ذلك لأن الكاتب في رسائله الإخوانية ((يطلق العنان للأقلام، ويتجافى عن الكلفة، ويعدل عن الانقباض، وقد قيل: إن الأنس يُذهب المهابة، والانقباض يضيع المودّة (٢)) ) .
ثانياً: الحِكَم:
الحِكم فن بارز من فنون نثر ابن مسعدة، فقد تضمنت معظم النصوص فلسفته ورأيه في الكون، والحياة، والإنسان، وجاءت في مجملها نظرات صائبة، نتيجة ثقافة، وخبرة، ونُضج تجربة ((ولعل العصر وطبيعة العصر، وما يموج فيه من أحداث، وصراع بين المتناقضات، ولعل في قرب الكاتب من الحاكم، وما يراه مفروضاً ويرفضه، وما يتمناه كائناً وهو غير كائن، وما يحلم به ولا يزال وهماً، يجعله أقرب ما يكون إلى الواعظ، أو الناصح الذي يوجّه بالقلم، ويرشد بالفكر، ويقرب الكلمة من صياغة الحكمة وشكلها (٣)) ) .
وقد ساق الكاتب حِكمه في قوالب تعبيريّة موجزة أشبه بالتوقيعات، ولا غرو في ذلك فالحكمة ((أشد قرباً من فن التوقيعات، فهي أشبه ماتكون توقيعاً تمده التجربة، ويبعثه الوازع إلى النصح، والإفادة من الخبرة، وتكثيف المشورة في كلم قليل، وعبارات رصينة معبّرة، تفيد الأجيال التالية من خبرات الجيل الذي سبق وجرّب، وخبِر الحياة وشؤونها (٤)) ) .