وأعان الكاتب على تحقيق هذا التوازن بعدُه عن التكلف، موفّراً بذلك قدراً كبيراً من المطابقة بين اللفظ والمعنى، تتحقّق ((بالتعبير الطبيعي الذي يترك فيه الأديب نفسه على سجيّتها السمحة دون أن يعمد إلى صنعة شاذة، أو تكلّف ممقوت، فيكون من ذلك المساواة، وصدق الأداء، وتنوّع العبارة حسب الموضوع والشخصيّة (١)) ) .
وقد أشاد الجاحظ بعناية عامة الكتاب، ورواة الأخبار، وحذاق الشعر، بالألفاظ والمعاني على حد سواء، فيما أبدعوه من أدب في قوله عنهم: إنهم ((لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيّرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكّن، وعلى السبك الجيّد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عَمَرتْها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحتْ للسان باب البلاغة، ودلّت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني (٢)) ) .
وقد كان لعمرو بن مسعدة نصيب من الاهتمام بألفاظه، ومعانيه في ضوء الاهتمام بهذه الظاهرة عند جمهرة الكتاب.
وفي رأيي أن ما أحرزه ابن مسعدة من الظهور والتفوّق في مجال الأدب والنثر منه بخاصّة، كان مردّه في الدرجة الأولى إلى تفوّق لغته الأدبية، وامتلاكه ناصية البيان، وهو ما هيّأ له عيشة رضيّة داخل أسوار الخلافة، ومكّنه من مجالسة الخليفة نفسه، والكتابة على لسانه، والتحدّث باسمه.
وهذا أيضاً هو الذي دفعني إلى أن أخصّ لغة هذا النثر بحديث مفصّل؛ طمعاً في كشف الّلثام عن بعض خصائصه الفنية، وأسرار نُضجه، وإبداعه.