للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن خير ما يمثّل ذلك قوله في الرسالة التي وجهها على لسان المأمون إلى نصر بن شبَث (وقد خرج عليه) : ((لأطأنّ بمن معي من أنصار الدولة كواهل الرعاع أصحابك، ومن تأشّب من أدنى البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خُرّاب الناس... (١)) ) . فهي ألفاظ كما ترى جزلة قوية، رصينة متينة، كأنما قُدّت من الحجارة، أو قِطَعِ الحديد الثقيلة، تثير في نفس المتلقي الرعب والوجل، وهما مقصودان هنا لذاتهما، فالموقف يتطلب حرباً نفسية قوية، تهزم العدو من داخله؛ ليتراجع عن المواجهة، ويستجيب وينصاع لأمر الخليفة.

هكذا حرص ابن مسعدة في جملة كتاب العصر على أن تكون ألفاظه جزلة رصينة، وهذا هو شأن معظم الكتاب الذين أشاد الجاحظ بطريقتهم في الكتابة بقوله: ((أما أنا فلم أر قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب؛ فإنهم قد التمسوا من الألفاظ مالم يكن متوّعراً وحشيّاً، ولا ساقطاً سوقيّاً... (٢)) ) .

وعلى الرغم مما اتّصفت به الألفاظ من الجزالة والفخامة أحياناً، فقد كانت سهلة بعيدة عن الابتذال أحيان أخرى، وهذا ما دعا إليه الجاحظ (وهو من أرباب القلم، والبيان، والبلاغة) بقوله: ((فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقيّ والوحشيّ، ولا تجعل همّك في تهذيب الألفاظ، وشُغلَكَ في التخلّص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصاد بلاغ، وفي التوسّط مجانبة للوعورة، وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه (٣)) ) .

وهو أيضاً ما وصفه القاضي الجرجانيّ (ت:٣٦٦هـ) وهو يحثّ على عدم التكلف، ويحض على تسهيل الأسلوب بقوله: ((فلا تظننّ أني أريد بالسمح السهل الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق الخَنِث المؤنّث، بل أريد النمط الأوسط، ما ارتفع عن الساقط السوقي، وانحط عن البدويّ الوحشيّ... (٤)) ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>