وقد بيّن الجاحظ مفهوم الإيجاز مبتعداً به عن ذلك المفهوم الذي فهمه بعض النقاد والدارسين، وهو أن الإيجاز الاختصار فقال:((والإيجاز ليس يُعنى به قلة عدد الحروف واللفظ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يَسَع بطن طومار (١) فقد أوجز، وكذلك الإطالة، وإنما ينبغي له أن يحذف بقدر ما لا يكون سبباً لإغلاقه، ولا يردّد وهو يكتفي في الإفهام بشطره، فما فضل عن المقدار فهو الخطل (٢)) ) .
ويرى السكاكي (ت:٦٢٦هـ) أن الإيجاز ((أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط (٣)) ) .
وإلى هذا المعنى ذهب ابن الأثير (ت:٦٣٧هـ) منوّهاً بأهمية الإيجاز وقيمته الفنية فهو ((حذف زيادات الألفاظ وهذا نوع من الكلام شريف لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة من سبَق إلى غايتها وما صلى، وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلّى وذلك لعلو مكانه، وتعذّر إمكانه...فربّ لفظ قليل يدلّ على معنى كثير، وربّ لفظ كثير يدل على معنى قليل (٤)) ) .
وبهذا المعنى الدقيق للإيجاز أصبح سمة بارزة على ما كتبه عمرو بن مسعدة وظاهرة من ظواهر نثره الفنية، مما حدا بالزركلي (٥) أن يقول عنه: ((وكان مذهبه في الإنشاء الإيجاز واختيار الجزل من الألفاظ)) .
ومن المؤكد أن هذه الظاهرة لم تأت في نثره بهذا الشكل الواضح البارز من فراغ، بل لم تكن عن عجز وعدم قدرة على الاسترسال في التعبير عن المضامين والأفكار، بل كانت سمةً مميِّزة لقدرة الكاتب الفائقة على التعبير، وسبر أغوار المعاني بقليل من الألفاظ والتراكيب، وكانت لذلك عوامل وأسباب، منها ما هو عام مشترك في كتابة عامة الكتاب الموجزين، ومنها ما هو أشبه بالخاص بابن مسعدة.
أما العوامل العامة المؤدّية للإيجاز عند ابن مسعدة وغيره فقد لخّصها أحد الدارسين (٦) في ثلاثة عوامل:
١ طبيعة اللغة.
٢ طبيعة الفنّ ذاته.
٣ طبيعة الحياة.
ويمكنني أن أضيف إلى العوامل السابقة طبيعة الموضوع أيضاً.