للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما عن طبيعة اللغة، فمن المعلوم أن المعاني والمضامين واسعة كثيرة، في حين أن الألفاظ التي نحتاجها للتعبير عن هذه المعاني محدودة معدودة، إذا قورنت بالمعاني، وفي ذلك يقول الجاحظ: ((...ثم اعلم حفظك الله أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة (١)) ) .

وابن مسعدة كغيره من الناس يتكلم، ويعبر، ويكتب عن أفكار كثيرة تمليها عليه طبيعة الحياة العامة والخاصة التي يعيشها، فهو مضطر أن يفيد من طبيعة اللغة، وما تتميّز به من خصائص، وما فيها من أسرار، أشار التوحيديّ إلىكثير منها في معرض حديثه عن الكلام البليغ بقوله: ((فإن الكلام صَلِف تيّاه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان، وخطره كثير ومتعاطيه مغرور، وله أَرَن (٢) كأرَن المُهر، وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرّة، ويتعسّر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً، ومادته من العقل، والعقل سريع الحؤول (٣) ، خفيّ الخداع، وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان، ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان، وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا ودَرْيُه (٤) بالتمييز، ونسجه بالرقة والحجا في غاية النشاط (٥)) ) .

أما العامل الثاني من عوامل الإيجاز فهو طبيعة الفن ذاته، فالفن ((ليس إعادةً للواقع، نسخة منه، مطابقاً له، ولا يمكن أن يكون كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لزهدنا فيه، ونفرنا منه، واجتويناه، فالواقع الأصلي يغنينا خير غنى عن هذه الصورة المسخ الفاقدة المعنى الخالية من الحياة (٦)) ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>