وعلى الرغم من ذلك فإننا لا نستطيع أن نعدّ كل إيجاز محمود مرغوب إذ له أحوال ومواضع يحسن فيها، وله غيرها يقبح فيها، وإلى هذا أشار جعفر بن يحيى البرمكي في توقيع له إلى عمرو بن مسعدة قال فيه:((إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عِيّاً (١)) ) .
أما عن طبيعة الحياة (العامل الثالث) فما من شك في أن البيئة بطبيعتها وجوانبها المختلفة (المكانية، الزمانية، العلمية والأدبية، الاجتماعية والسياسيّة) وما تخلعه تلك على الحياة التي يعيشها الأديب، وما تصبغ به حياته من أفكار، وتدفعه إليه من سلوك، وما تشغل به وقته من أعمال وحوائج يلزمه قضاؤها، فإن لذلك كله أثره الواضح أحياناً في جذب الكاتب إلى الإيجاز، وعدم التطويل.
وأما عن طبيعة الموضوع، فما من شك في أن الموضوع يفرض نفسه على الكاتب، وتحدّد طبيعته الطريقةَ المناسبة لتناوله، وعرض أفكاره العامة، والجزئية؛ لذا أرى من أسباب الإيجاز عند ابن مسعدة وغيره ممن سار على نهجه طبيعة الموضوعات النثرية التي طرقها.
فالرسائل الإخوانية بخاصة سلكت أسلوب المراجعات، والمجاوبات، أي أنها تكون أحياناً ردّاً أو جواباً، فمطلوب فيها الإيجاز، والحِكَم أساساً تقوم على الإيجاز، وكذلك التوقيعات.
وإلى جانب هذه العوامل العامة المؤثّرة في بروز ظاهرة الإيجاز في كتابات الكتاب الموجزين والتي كان لابن مسعدة نصيب منها نجد عوامل صريحة مباشرة كان لها تأثيرها البيّن في دفعه إلى الإيجاز فيما كتبه.