للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمع ما كان يذهب إليه أساطين البلاغة، وأمراء البيان في العصر من إشادة بهذا المسلك، ومن بين هؤلاء الخليفة المأمون الذي عُرِف ببيانه وبلاغته، فقد كان له تأثير كبير على ابن مسعدة فكان يحب الإيجاز، ويعجب به كما جاء في بعض مقولاته عنه، ولم يقف أثره على الإعجاب به فقط، بل كان يدعو صراحة إلى نبذ الاستطراد فقد جاء في خبر سبق (١) أن المأمون طلب منه أن يكتب إلى عامل دَسْتبى كتاباً فأطاله ابن مسعدة، فأخذه المأمون من يده، وكتب: ((قد كثر شاكوك فإمّا عدلتَ، وإما اعتزلتَ (٢)) ) .

كما جاء في خبر آخر عنه أن المأمون قد أمره أن يكتب لشخص كتاباً إلى بعض العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره وأن يكون ذلك في سطر واحد فقط (٣) ، فكتب له: ((كتابي إليك كتاب واثق بمن كتبتُ إليه، معنيّ بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله، والسلام (٤)) ) .

فالمأمون فيما تقدم يحثّ ابن مسعدة، ويحضّه على الإيجاز ما أمكنه ذلك، ولم يكن عمرو (وهو الكاتب الفَطِن) بالذي يعصي لخليفته وولي نعمته أمراً، بل كان أشد التزاماً بما أُمِر به.

ومن المؤكّد أن غير المأمون من الأدباء، والبلغاء، والكتاب النابهين، من يرى هذا الرأي، ويسير على نهجه فيما تبدعه قريحته، ويخطه يراعه، وما كان إعجاب جعفر البرمكي بأحد توقيعاته، وإشادته به إلا واحداً من ذلك.

ويعدّ الإيجاز في نثر ابن مسعدة كما في نثر غيره ((من أبرز آثار التوازن بين اللفظ والمعنى، وأفضل حسناته...وهو توازن دقيق وحدّ وسط بين الإفصاح البالغ المسرف في ثرثرته وفضوله، وبين الغموض الكزّ الضنين بأسراره وكنوزه، ولا يلين ولا يستجيب وإن جهد الذهن في استنطاقه (٥)) ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>