للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هكذا نجد هذه العوامل والأسباب كلها، بالإضافة إلى التزام كتاب العصر في جملتهم بالإيجاز تدفع بابن مسعدة كغيره من بلغاء عصره إلى أن يوجز في كتابته إيجازاً أصبح أبرز سمة من سمات فنّه الذي أبدع فيه، وأصبح إماماً له، وكان من أجله موضع تقدير من لدن أرباب البيان والبلاغة في عصره وبعده، فقد قال عن نفسه: ((كنت أوقِّع بين يديْ جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم، فرمى بها إليَّ، وقال: أجب عنها. فكتبت: قليل دائم خير من كثير منقطع. فضرب بيده على ظهري، وقال: أي وزير في جلدك؟ (١)) ) .

ويروع المأمون بيانه، ويعجبه إيجازه، وتسحره بلاغته في خبر جاء فيه: أنه ((قدم رجل من أبناء دهاقين قريش على المأمون لِعِدَةٍ سلفت منه فطال على الرجل انتظار خروج أمير المؤمنين، فقال لعمرو بن مسعدة: توصل في رقعة مني إلى أمير المؤمنين تكون أنت الذي تكتبها تكون لك عليَّ نعمتان. فكتب: إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته ويأذن له في الانصراف إلى بلده فعل إن شاء الله.

فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمراً فجعل يعجبه من حسن لفظها وإيجاز المراد.

فقال عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟

قال: الكتاب له في هذا الوقت بما وعدناه لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه وبجائزة ألف درهم صلة على دناءة المطل، وسماجة الإغفال، ففعل ذلك له (٢)) ) .

وقد شاع تفوقه في الإيجاز، وشهرته به، حتى صارت بعض نصوصه شواهد صالحة، وأمثلة يمثَّل بها في الدرس الأدبي والبلاغي، فقد وجدنا الخفاجي (ت:٤٦٦هـ) (٣) مثلاً يعدّ من ((إيجاز القصر)) ما كتبه ابن مسعدة عن المأمون إلى بعض عماله: ((كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنّى بمن كُتِب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله، والسلام (٤)) ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>