للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنّ الفراغ، والرحيل، والفراق والتنقل، وعدم الاستقرار، واتّساع الصحراء غير المحدود، والظلمة الموحشة، والخوف، والصدام بين بعض الشعراء، وأنظمة قبائلهم، كلّها أسباب أساسية كانت وراء الحضور العنيف للتراجيدي في الشعر الجاهلي ٠

ومن يقرأ هذا الشعر يحسُّ بنبرة حزن غالباً ما تكون عاليةً يردّدها الشعراء في كلّ نصوصهم دون استثناء ٠ ويرافق تلك النبرة شعورٌ بالألم والقلق والوحدة وما إلى ذلك ٠ حتّى ليخيّل إليَّ أنّ الشاعر الجاهلي لو أراد أن يقدّم الفرح، فهو سيقدّمه عبر التراجيدي ٠

وسنفصّل - فيما يلي - بأبرز مظاهر التراجيدي في الشعر الجاهلي:

أوّلاً -: موقف الطّلل:

لقد كانت معظم القبائل العربية تعاني من نقص في المياه، والكلأ، لها، ولمواشيها بسبب طبيعة الجزيرة العربية الجافة آنذاك، ممّا يدفعها إلى أن تنتقل من مكان إلى آخر للبحث عنه في فصل الربيع غالباً ٠ وكانوا يُطلقون على أماكن تجمّع المياه والعشب اسم " دارة " ٠ ويحدث أحياناً أن تلتقي حول دارة من الدارات قبيلتان أو أكثر جاءتا من مكانين مختلفين في الجزيرة العربية، فيتمّ التعارف بين أفراد القبيلتين ٠ وهو لا يتجاوز علاقة الجوار التي ستنتهي بانتهاء فصل الربيع، لتعود كلّ قبيلة إلى موطنها ٠ وتشاء المصادفة، أحياناً، أن تنشأ علاقة عاطفية بين شاعر من هذه القبيلة، وفتاة من القبيلة الأخرى، وتلك العلاقةُ تولِّدُ ذكريات جميلة، ترتبط بأشياء متنوعة في المكان؛ لكن " التنقّل وعدم الاستقرار "، وانتهاء فصل الربيع يجعل القبيلتين تعودان إلى ديارهما، ويُجهز على الّلحظات الجميلة بين الأحبة ٠

ويحدثُ، بعد سنوات، أن يتذكّر الشاعر تلك الّلحظات الجميلة التي مرّت به، فيربطها بكلِّ ما كان يجري في المكان ٠ إنّ تجسيد الشاعر لهذا الموقف بأشكال مختلفة هو الأساس في الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي ٠

<<  <  ج: ص:  >  >>