وتجدر الإشارة هنا إلى أن " الماء " لم يكن السبب الوحيد في رحيل القبائل وتنقّلها من مكان إلى آخر، وإنما كان للحروب بين بعض القبائل، وما يمكن أن تخلّفه من ضحايا، الأثرُ الكبير في تغيير القبيلة لموطنها الأصلي.
لقد كان الشاعر يعود إلى الديار، على وجه الحقيقة أو الحلم، فلا يعرفها فيتكوّن لديه أوّلُ الشعور بالمأساة، وحين يتعرّف إليها بعد لأيٍّ، يكتشف أن الديار فارغة لا أحدَ فيها بعد أن كانت تنبض بالحركة والحياة والحب ٠ وهذا الأمر يُصَعِّدُ لديه الشعور التراجيدي الذي يتضخّم أكثر حين يتركُ الشاعرُ العنانَ لذكرياته التي تنقله إلى الزمان الجميل، البعيد، وما جرى فيه من لقاءات لا تُنسى ٠ثمّ يصحو من ذكرياته فيبلغ الشعور بالمأساة لديه ذروته ٠
ذلك كان هو المسار العام الذي اتبعه الشاعر الجاهلي للتعبير عن التراجيدي، وتشكيله في موقف الطّلل٠ ومّما كان يعمّق هذا الشعور التراجيدي أكثر هو الإحساسُ الشديد بالزمن؛ الماضي المزدهر، والحاضر الذي أقفر ٠
ومن استعراض لمطالع بعض النصوص الشعرية في العصر الجاهلي نجد أنّ " التراجيدي " هو أبرزُ ما يواجهنا فيها من حيث موقعه في أوّل كلِّ نصّ، ومن حيث تضخّم الشعور المأساوي فيه ٠
فامرؤ القيس يدعو إلى تعميم الشعور بالمأساة لعلَّ ذلك يخفّف عنه شدّة وقعها:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ الّلوى بين الدَّخول فحوملِ
فتوضح فالمقراةِ لم يعفُ رسمُها
لِمَا نسجَتْها من جنوبٍ وشمألِ
ترى بَعَرَ الأرآم في عَرَصاتها
وقيعانها كأنّه حبُّ فلفلِ (١)
والشاعر هنا يركّز بوضوح على التفاصيل الجزئيّة في المكان، ويربطها بغياب الأحبة الذين ملؤوا تلك التفاصيل، واليوم لا أحدَ فيها ٠
ويفصّل الحارث بن حلّزة أشياء المكان لأهميتها القصوى في بناء الموقف التراجيدي قائلاً:
فا لمحيّاة فا لصّفاحُ فأعنا
قُ فِتاقٍ فغاربٌ فالوفاءُ
فرياضُ القطا فأدويةُ الشُّرْ