نخلص ممّا سبق إلى أنّ التراجيدي في موقف الطلل بوصفه " قيمة جمالية " و " شكلاً فنيّاً " أصبح " مَثَلاً جماليّاً " - فيما بعد - حاكاه الشعر العربي، وكان يُقاس جمال ما يكتب بقياس " المَثَل " الذي وُضعت أُسسه في العصر الجاهلي ٠ أعني قاسوا ما كتبوه شعريّاً على مستوى التراجيدي وشكله الفني في الشعر الجاهلي، وكذلك فعلوا مع النقد ومقاييسه المختلفة ٠ وربما كان لاستهجان أغلب النقّاد في العصر العباسي ما فعله أبو نواس في مقدّمة القصيدة أوضح الأثر لفعل " المَثَل الجمالي " المذكور في تقييمهم للإبداع؛ أعني أن هذا " المَثَل " لم يؤثّر في الإبداع الشعري العربي اللاحق فحسب، وإنما ساهم في صياغة " الوعي الجمالي النقدي " الذي كان يقيس النقّادُ جمالَ النصوص، أو قبحها على أساسه. وكذلك ظلّ النقد – كالشعر – حتى العصر الحديث. وما حدث في النقد العربي القديم من سعي بعض النقّاد للتجاوز والتخطّي ليس سوى إشارات عابرة، أو أصوات مخنوقة لم تستطع التأثير في الإطار العام للوعي الجمالي النقدي الذي أسّسه " التراجيدي " في هذا المجال منذ العصر الجاهلي.
ثانياً -: موقف الرّحيل:
يمكن اعتبار هذا الموقف متمّماً لموقف الطّلل في رسم صورة التراجيدي التي جسّدها الشعر العربي في العصر الجاهلي ٠ وهو نابع منه ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً ٠ وتتشكّل أُسس هذا الموقف، غالباً، حين ينتهي فصل الربيع، وتقرّر القبائل العودةَ إلى ديارها، فيتمّ التحضير للرّحيل قبل أيام من موعده، أو قد يكون الرحيل مفاجئاً ٠ وقد تحدّث الشاعر الجاهلي كثيراً عن هذا الموقف الصّعب، وعبّر عن انعكاسه السلبي عليه ٠