للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالرّحيلُ يعني الإجهازَ على الّلحظات السعيدة التي خفقَ فيها قلبهُُ، والتي قد لا تعود مرّة أخرى ٠ وهي عادة لا تعود بدليل أنّ الشعراء كانوا يقفون على الأطلال في نصوصهم، إلى جانب أنّهم كانوا يبالغون في تجسيد المأساة التي يخلّفها مشهدُ الرحيل، وكأنّهم يدركون أنّ الّلقاء لن يتمّ ثانية بينهم وبين مَن يحبون ٠ والشاعر الجاهلي كان يدُاخل بين موقف الرحيل هذا وموقف الطّلل ٠ فالرحيل إلى القفر، والطّلل يؤكّدان أنّ الحياة السعيدة التي أشرقت ذات يوم لن تعود ثانية ٠ والفعلُ الذي استخدمه الشاعر في موقف الرحيل هو الماضي، وما يمتلكه من إيحاء قوي في تشكيل المأساة في النصّ ٠

وسنمرّ فيما يلي بشعاب بعض النصوص من الشعر الجاهلي التي تناولت موقف الرّحيل عبر مجموعة من المحطّات ٠ يقول امرؤ القيس:

كأنّي غداةَ البيِن يومَ تحمّلوا

لدى سمُراتِ الحيِّ ناقفُ حنظلِ

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهم

يقولون: لا تهلكْ أسىً وتجمّلِ (١)

يُلاحَظ هنا أنّ الشاعر يجسّد صورتين: الأولى متحرّكة، والثانية ثابتة؛ في الأولى تتجلّى الحياة، وفي الثانية يخيّم الموت ٠ فالشاعر يجسّد لحظةَ الفراق حين كان القوم يجهّزون للرحيل، بينما هو في الطّرف الآخر ثابتٌ لا يتحرّك ٠ وكأنّ الطرف الأول المتحرّك امتصَّ منه حركته، أي حياته، فخيّم عليه السكون / الموت ٠ إنّ وجودَها معه يعني الحياة، ورحيلَها يعني الموت ٠ ويمكن أنْ نتخيّل كم سيكون الشعورُ بالمأساة كبيراً في مثل هذا الموقف ٠

<<  <  ج: ص:  >  >>