وقد استنفر الشاعر – لرسم ذلك الشعور - مفردات ذات طابع واحد لإعطاء " التراجيدي" مساحة كبيرة، مثل: " الغداة " إذ قد يكون الرّحيل في مثل هذا الوقت مستثيراً للحزن أكثر من غيره، ثمّ " البين "، و" تحمّلوا "؛ أي بداية المغادرة، ثمّ " ناقف حنظل "، و " مطيّهم "، و " الأسى "، و " شدّة الاحتمال " لما في ذلك الموقف من هول ٠ والصورة المركزيّة هنا تتمثّل في لجوء الشاعر إلى سمُرات الحيِّ " وهو شجر الطّلح الضخم " ليُعلن عن سكونه، ودهشته، وعدم قدرته على الحركة؛ فهو كالمشلول واقفٌ بثبات تلك الأشجار في ذلك المكان، أو كأنه أصبح جزء اً منها ٠
ولابدّ لنا من الإشارة إلى أنّ " قيمة التراجيدي " في موقف الرّحيل في الشعر الجاهلي كانت تتشكّل دائماً من الصورتين المذكورتين: الأولى التي تفيض بالحركة والحياة، والثانية التي تنوء بالبؤس والشقاء والحزن ٠
وقريباً من هذا المشهد يركّز "طرفة بن العبد" على صورة الظعائن، وزمن الرحيل، قائلاً:
خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
كأنَّ حدوج المالكيّة غدوةً
يجور بها الملاّحُ طوراً ويهتدي (١)
عدوليةٌ أو من سفيِن ابنِ يامنٍ
ويأمر الأعشى نفسَه، وربّما مَن معه أيضاً لوداع هريرة بمزيد من الأسى والحزن قائلاً:
ودّع هريرة إنّ الرّكبَ مرتحلُ
وهل تُطيقُ وداعاً أيّها الرّجلُ (٢)
ويربط لبيد - وقد داهمه الأسى - زمنَ الرّحيل بمشهد الظعن الذي غادر المكان، فجعل كلَّ شيء بعده عارياً، لا حياة فيه:
منها، وغودر نُؤيُها، وثُمامها
عَريَتْ وكان بها الجميع فأبكروا
فتكنّسوا قُطُناً تَصِرُّ خيامُها (٣)
شاقتْكَ ظُعنُ الحيّ حين تحمّلوا
والحارث بن حلّزة يؤكّد أنّها لم تغادر فجأة، بل أخبرته بذلك ٠ وربّما كان ذلك هو سبب معاناته الشديدة، وبخاصة أنّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً ٠ يقول:
ربَّ ثاوٍ يملُّ منه الثّواءُ
آذنتنا ببينها أسماءُ