إنّ الغاية من وراء تركيز الشاعر الجاهلي على مثل هذه التفاصيل في موقف الرحيل ليست رسم صورة فنية جميلة لقافلة الحبيبة الرّاحلة، وإنّما لاستنفار الشعور بالحزن وتعميمه؛ أي لاستنهاض الشعور عند المتلقّي الذي يرغب الشاعر في أنْ يشاركه فيه ٠ ولا ننسَ أنْ نربط هذه التفاصيل بتأكيد الشعراء على زمن الرحيل المبكّر ٠ فكلاهما يصبُّ في الهدف المذكور نفسه ٠
٣-: انشغلت جميع النصوص برسم صورتين مركزيّتين متقابلتين متوازيتين جسّدت من خلالهما موقف الرّحيل ٠ تتضمّن الأولى رحيل الحبيبة، وتقابلها في الاتجاه الآخر صورةُ الشاعر الحبيب المتشبّع بالمأساة ٠ والصورة الأولى يكوّنها مجموعةٌ من الناس والإبل والأغراض المختلفة اللازمة للرحيل ٠ والصورة المقابلة يبدو فيها الشاعرُ وحيداً، لا يشاركه الهمَّ إلاّ أشياء الطبيعة الصامتة ٠ وقد سعى الشعراء إلى تضخيم الصورة الأولى بتزويدها بالحركة والصخب إلى جانب العدد الكبير، وذلك لتصغير حجم الصورة الثانية؛ لأجل الهدف الذي ذكرناه آنفاً، وهو تضخيم المأساة وتعميمها عبر تعاطفنا الشديد مع ذلك الشخص الذي انكسر أجملُ ما عنده، ولا يستطيع أن يفعل أيّ شيء لإعادته إلى ما كان عليه ٠
٤-: جعلت النصوص الّلونَ المرافق لموقف الّرحيل هو الّلون الأسود، واشتقاقاته ٠ وقد ورد هذا الّلون إمّا لفظاً مثل " الغرا ب الأسود "، أو عن طريق الإيحاء به عبر ربطه بزمن الّرحيل، أو كما يعبّر عن ذلك زهير بن أبي سُلمى في الظعائن:
بكرنَ بكوراً واستحرنَ بسُحرةٍ
فهنَّ لوادي الرّسِّ كاليدِ للفمِ (١)
ولسنا بحاجة إلى التذكير لما لهذا الّلون من دلالات، وإ يحاءات هامّة على دعم الموقف التراجيدي ضمن تفاعله مع العناصر المذكورة ٠
٥-: أكّدت النصوص على مقولة " موت المكان " بعد رحيل الأحبة مباشرة ٠ لذلك فهو مكان عارٍ، والشاعر فيه كأنّه ناقف حنظل ٠