ولابدّ من التأكيد أن الاغتراب ظاهرة أساسية من الظواهر التي تناولها الشعر الجاهلي واعتنى بها ٠ وهي تتداخل مع موقف الطلل والرحيل المذكورين لتساهم معهما في تكوين الأسس الجمالية التي بُني عليها "التراجيدي" في الشعر الجاهلي.
رابعاً -: ظاهرة الصعلكة:
يمكن اعتبار ظاهرة الصعلكة ظاهرة تراجيدية ٠ بل يمكن التعامل معها على أنّها كذلك لاعتبارين أساسيين: يتمثّل الأوّل في أنّ السبب الرئيسي الذي أفرزها عائد إلى عدم التواؤم بين رغبات الأفراد وقبائلهم؛ بمعنى أنّهم لم يستطيعوا تنفيذ ما يطمحون إليه من رغبات وأحلام وغيرها على حيّز الواقع بسبب الموانع والضوابط التي كانت تفرضها عليهم قبائلهم ٠ والصعلكة – على ضوء ذلك – تمثّل التصادمَ بين رغبة الفرد والجماعة، بين ما يرغب فيه، وما يُفرض عليه ٠ ولعلّ هذا التصادم الذي كَسَر الحلمَ الذاتي، وزعزع الثقةَ بالقبيلة هو الذي جعل من الصعلكة ظاهرة تراجيدية ٠
ويعود الاعتبار الثاني الذي يؤكد أن الصعلكة " ظاهرة تراجيدية " إلى نصوص الشعراء الصعاليك التي تعكس دون استثناء ذلك الشعورَ الرومانسي الذي يهيمن على الفرد مثل: الحزن والإحباط والتمزّق والشعور الدائم بأنّه متروك؛ أي إنّ المناخ العام الذي يوحي به شعر الصعاليك هو مناخ تراجيدي٠ وصحيح أنّنا نقرأ، دائماً، في أشعارهم تحدّياً للمجتمع الذي نفاهم، وللطبيعة، ونراهم يجسّدون قدراتهم في الشجاعة والعدْوِ والكرم والإيثار، ومقاومة الجوع والعطش والوحوش الكاسرة والظلام المخيف، وجفاف الصحراء ٠ لكنّ كلّ هذا لا ينفي أنّ أشعارهم مبطّنة بمساحة واسعة من الحزن وامتدادا ته، بل إنّ الجانب الظاهر الذي يتمثّل في التحدي المذكور لهو نوعٌ من أنواع ردِّ الفعل على حالة تراجيدية عميقة زرعها المجتمع في نفوسهم حين أهملهم، وظلمهم، وطردهم ٠