للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ينبغي إذن تعريف الحرية التي كرّسها الاعلان بأنها إرادة النفس الحسّيّة بالمعنى المطلق لهذا التعبير. وهكذا نصل إلى الفلسفة النهائية لواضعي الاعلان: حقيقة الإنسان تكمن في نفسه الحسّيّة: أي أن جوهر الإنسان هو المادة، والروح ليست حقيقة مستقلة عن الجسد. وقد رأينا آنفاً أن الذين أخذوا على الإعلان عقلانيته المطلقة قد وصموه أيضاً بالمادية. ويمكن أن نرى أن الثورة الفرنسية (١٧٨٩) والثورة البلشفية التي نشبت في روسيا في ١٩١٧ تشتركان في رؤيتهما المادية للإنسان وأنهما في هذه الرؤية المشتركة ثمرة تطور عقليّ متشابه مرّت به عائلة الشعوب الأوروبية. الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع السياسي هو، في فلسفة الثورة الفرنسية، حيوان سياسي؛ وفي هذا يلتقي فكر الثورة مع الفكر الاغريقي القديم. والحقيقة القانونية التي تقرِّرها الإرادة العامة، كما تنص عليه المادة السادسة من الإعلان، تتجذَّر إذن في غرائز هذا الحيوان السياسي. ولا محل إذن للدين في حياة المجتمع السياسي الذي أقامته الثورة. ومن سوء الفهم بل من السطحية أن نتوهم أن علمانية الدولة التي كرّسها الإعلان تقتصر على فصل الدولة عن الكنيسة؛ إنها لا تطرد السلطة الروحية وحدها من حياة المجتمع السياسي بل تطرد معها وقبلها الحقيقة الدينية نفسها إذ هي تقوم على إنكار أن يكون لأية حقيقة وجود خارجي مستقل عن الوعي وعلى اعتبار الحقيقة بنت الوعي الفردي. وفي الحساب الأخير فإن الحقيقة الدينية تتجذر، رغم ما يبدو في هذا القول من غرابة شديدة، في الغريزة الحيوانية، شأنها في هذا شأن الحقيقة القانونية. لسنا هنا بعيدين عن هيجل الذي عاصر الثورة الفرنسية

والذي يصل عنده تكريس الغريزة الحيوانية في الإنسان إلى درجة التقديس: فالله، كما يقول، تجسّد في المادة ثم في الغريزة الحيوانية للإنسان ومازال يواصل من خلالها عمله

<<  <  ج: ص:  >  >>