وأما قولهم: إن المتقدمَ أولى بالإعمال لاعتناء العرب به؛ " فنقول: لو أعملوا الأول لراعوه من كل وجه، وأهملوا الثاني من كل وجه، وهذا نقيض الحكمة، بل جعلوا تقدم الأول عناية به من وجه، وإعمال الثاني عناية من وجه، فأعطوا لكل منهما حصةً من العناية، على أنا نقول: إعمال الثاني لا يمنع الأول شيئًا من العناية على أن لا تصير إلى إعمال الثاني إلا بعد إعطائنا الأول ما يستحقه إما مضمرًا فيه إن طلب فاعلاً، أو محذوفًا معه إن طلب مفعولاً بخلاف إعمال الأول، فإنا نذكر العامل الثاني قبل توفية الأول ما يقتضيه، فلو قيل بما ذكرنا إن إعمال الثاني أتم في الاهتمام بالأول من إعماله لم يبعد ذلك". ( [٧٤] )
" وأما قولهم:" لو أعملنا الثاني لأدّى إلى الإضمار قبل الذكر" فنقول: إنما جوّزنا ههنا الإضمار قبل الذكر لأن ما بعده يفسّره لأنهم قد يستغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب، قال تعالى:{وَالحَافِظِيْنَ فُرُوْجَهُمْ وَالحَافِظَّاتِ وَالذَّاكِرِيْنَ اللَّهَ كَثِيْرًا وَالذَّاكِرَاتِ ... }[الأحزاب:٣٥] ، فلم يعمل الآخر فيما عمل في الأول استغناءً عنه بما ذكره قبل ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول، وقال الله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِىْءٌ مِنَ المُشْرِكِيْنَ وَرسُوْلُهُ ... }[التوبة:٣] ، فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني". ( [٧٥] )
وأما قولهم: أنا رأينا العرب تراعي المتقدم في قولهم: " عندي ثلاثة ذكور من البط ... "" فنقول: ما ذكرتم دليل لنا لا لكم؛ لأن العرب راعت فيه الأقرب إلى العدد فذكرته إذا تقدم (الذكور) أقرب إليه، وأنَّثتْه إذا تقدم (البط) لقربه منه أيضا، ثم ذكرتم معارض بقول العرب:(علمتُ لزيدٌ منطلقٌ، وعلمتُ أزيدٌ منطلقٌ، وعلمتُ ما زيدٌ منطلقٌ) ، فإنهم راعوا الثاني في اللفظ لقربه دون الأول". ( [٧٦] )