وقد اتضح معنى الغموض وأهميته عند أبي اسحق الصابي (ت ٣٨٤هـ) ، حيث حدد الفرق بين النثر والشعر، مبيناً أن النثر مجاله الوضوح في المعاني والألفاظ، وأما الشعر فمجاله الغموض، حيث يخلق الغموض في الشعر مفاجآت من خلال تعدد المعاني، والاحتمالات المختلفة في التفسير، وبهذا التعدد تتشكل اللذة الحسية والعقلية عند قارئ الشعر ومتلقيه. يقول أبو اسحق الصابي:"إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه. وأفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه"(١٠) .
كما كان لعمود الشعر الذي أرسى قواعده المرزوقي (ت ٤٢١هـ) في شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام دور سلبي على الشعر العربي، ولا سيما في الحركة النقدية حول أبي تمام، الشاعر المبدع. فقد حدد المرزوقي أركان عمود الشعر التي تنفي صفة الغموض، وعمق الاستعارة عن الشعر الجيد وتحبذ وتلزم الشاعر بضرورة اتباع الوضوح، وقرب التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، يقول:"إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف –ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات- والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما- فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر"(١١) .