ومن خلال هذا التصور عند المرزوقي، فقد لجأ إلى تفضيل النثر على الشعر، وقد عد سبب كثرة الشعراء إلى أن الشاعر يستطيع أن يؤدي شعره بكل ما فيه من غموض وخفاء وغرابة دون اهتمام بالوضوح في المعاني والألفاظ، وهذا يعد أمراً يحتاج إلى معاناة وجهد، ولذا فإن المترسلين يعانون في سبيل الوضوح في المعاني والألفاظ أكثر من الشعراء، وبهذا يكون الغموض سمة للضعف في الشعر. يقول:"وكان الشاعر يعمل قصيدته بيتاً بيتاً، وكل بيت يتقاضاه بالاتحاد، وجب أن يكون الفضل في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعر في تلطيفه. والأخذ من حواشيه، حتى يتسع اللفظ له، فيؤديه على غموضه وخفائه"(١٢) .
ولعل تسمية الغموض بهذا الاسم قد ترك أثراً سلبياً عند النقاد والبلاغيين العرب القدماء، مما جعلهم يستبدلونه بمرادفات أخرى لها نفس المضمون والمعنى، حيث أصبح الغموض ومرادفاته يجسد علامة للجودة وأساساً للشعرية الحقة. ولهذا فقد استخدم عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١هـ) مصطلح الغموض من خلال الإشارة إليه مباشرة أو من خلال تسميات تدل عليه مثل التوسع (١٣) ، والغرابة (١٤) ، ومعنى المعنى، حيث بين عبد القاهر الجرجاني أن الغموض يكمن في المعنى الثاني أو المستوى الفني المتمثل في العمل الأدبي سواء أكان نثراً أو شعراً. يقول:"الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلاً بالخروج على الحقيقة فقلت خرج زيد. وبالانطلاق عن عمرو فقلت: عمرو منطلق: وعلى هذا القياس. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل"(١٥) .