كما حاول الجرجاني التركيز على مصطلح الغموض نفسه، مبيناً، أهمية العقل في إدراك الفكرة التي يعبر عنها النص الابداعي من خلال ضروب البلاغة، والصياغة والتأليف. فالجرجاني هو ذلك الناقد العقلاني الفذ الذي يرفع من قيمة الفكرة، ويرى الوصول إليها من أهم أنواع اللذة النفسية في تتبع صور الجمال، فالمجاز والاستعارة والتشبيه والتمثيل ضروب تحرك القارئ إلى معرفة الفكرة وإدراكها التي يعبر عنها النص الابداعي، وبهذا يستطيع المبدع من خلال النص الإبداع أن ينقل القارئ من منطقة العقل وتتبع الفكرة إلى منطقة الحس والشعور بالنشوة واللذة النفسية العارمة، وهذه غاية أساسية للعمل الابداعي تجاه المتلقي، يقول الجرجاني:"ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال:
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وهنّ ينبذن من قول يصبن به
وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً مشرفاً له وزائداً في فضله" (٣٠) .
وعد الجرجاني التباين والتنافر في أطراف التشبيه أكثر قدرة على شد المتلقي وإثارته واستفزازه لما في هذا التنافر من غموض يحرك العقل والحس معاً. يقول:"كلما كان مكان الشبه بين الشيئين أخفى وأغمض وأبعد من العرف كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسن وأكثر في الاستعمال"(٣١) .